فارس جميل

فارس جميل

عام يمني بدون صالح

Tuesday 04 December 2018 الساعة 07:57 am

بعيداً عن تقييم فترة حكمه، فقد كان علي عبدالله صالح محظوظاً أمام سجل التاريخ لمجرد أن البديل الذي حل محله قاد البلاد إلى الهاوية.

قد يكون صالح الرئيس الوحيد لليمن الموحد، وهادي وإن بدأ بيمن موحد فلن ينتهي حكمه بالجمهورية اليمنية كما كانت، فقد أصبحت الوحدة مشكلة في نظر البعض بدلاً من كونها حلاً سحرياً للنهوض باليمن، كما تم الترويج لها لعقود.

من ذكاء صالح أن سلم هادي علم الجمهورية في حفل تنصيب هادي، وكأنه يشهد الرأي العام على أنه سلمه يمناً واحداً، فسيناريوهات البلد كانت شبه واضحة أمام رجل بخبرة صالح السياسية.

سواءً كان تحالف صالح مع الحوثيين بدافع الانتقام من خصوم 2011، كما يقول البعض، أو كان بدافع الضغوط التي مورست ضد صالح ولم تترك له مجالاً آخر غير التحالف مع جماعة كان يعرفها أكثر من أي يمني آخر، ويدرك أنه هدفها الأبرز عندما تمتلك الفرصة، فقد تدارك الأمر في آخر أيام حياته بشكل قوي وشجاع، دفع ثمنه وتوقعه مسبقاً.

مع الترويج للحل العسكري السريع ضد الحوثيين، تم إفراغ الساحة السياسية اليمنية للحوثيين دون معارضة تذكر إلا من حلفائهم في حزب المؤتمر الذين عملوا على منع ممارسات الحوثيين ضد مؤسسات الدولة والمجال العام أكثر من أي طرف أو حزب آخر، بل وبشكل منفرد.

ظلت كثير من مؤسسات الجيش تؤمل على دور صالح لتلتحق به في مواجهة الجماعة، لكن وبشكل منظم ومدروس تم إضعاف معنوياتها ووصفها بتوصيفات دون وطنية لتقع أخيراً فريسة للحوثيين، ولم يتمكن صالح من لملمة شتاته في الوقت المناسب.

ظل حزب المؤتمر يمارس دوره إلى حد كبير كآخر علامة صحية للتعددية السياسية في اليمن، وكان الخطاب الديني والطائفي للقوى الأخرى سوسة نخرت في جسد الديمقراطية كإنجاز وطني كان في طريقه ليتحول إلى تجربة راسخة، وفي جسد النسيج الاجتماعي حتى أصبح التمايز الاجتماعي اليوم يهدد البلد بكارثة أسوأ مما تعيشه الآن.

تشتت المؤتمر بين أطراف الصراع، فاستحوذ الحوثيون على من تبقى من قياداته بصنعاء ترغيباً وترهيباً، وحاول هادي وعلي محسن الاستحواذ على من تمكن من مغادرة البلد للخارج من القيادات المؤتمرية التاريخية، وفي كل الأحوال فإن هناك حزباً هو الأقوى في البلاد يتفسخ بمرور الوقت، ما لم تحدث معجزة.

مع نداء صالح للخروج ضد الجماعة في الثاني من ديسمبر 2017، خرج اليمنيون بصنعاء لتمزيق شعارات الحوثيين كإعصار أصاب الجماعة بالرعب، وكشف عورتها للرأي العام، ولم يتكرر المشهد أبداً رغم كل خطابات القيادات السياسية الأخرى حتى اليوم، فقد احتفظ بتأثيره على الرأي العام وتوجيه الجماهير رغم كل ما تعرض له من تخوين وتشويه من الطرفين.

مع تشتت المؤتمر كحزب قاد البلد لعقود، تفكك تحالف صنعاء، وأصبحت حكومتها مجرد ديكور متهالك يفقد ليس فقط شكله ولكن دوره أيضاً، فقد أصبح أصغر قيادي حوثي قادراً على إهانة أكبر وزير، وعمل كثيرون على مغادرة صنعاء وليس فقط كراسي الوزارة عندما تمكنوا من ذلك، كما أصبح البرلمان الذي ظل يشكل كفة ترجيح للمؤتمر عاجزاً عن أي دور باستثناء حضور جلسات دون نصاب ولا أثر حسب رغبة المشاط وشركائه، وظهر رئيسه يحيي فعالية الحوثيين التي تكرس العنصرية السافرة، وفي ميدان كان يوماً يعج بجماهير المؤتمر دون سواه.

وفد التفاوض الذي كان مكوناً من المؤتمر والحوثيين أصبح وفداً واحداً يمثل الحوثيين كجماعة مسلحة، وليس هناك من يمثل المؤتمر كحزب سياسي صاحب قرار وتأثير اليوم، بغض النظر عن الشخصيات التي سماها المشاط وشركاؤه بصنعاء.

حافظ صالح على حاجز الصد الاجتماعي الذي تمت إزاحته من طريق الجماعة بمقتل الرجل، ولم يعد هناك قائد ولا قوة قادرة على إعادة رفع أسواره أمام تغول الجماعة اليوم في كل مفاصل المجتمع والدولة بعقلية طائفية عنصرية لا تعرف سوى العنف، ومع كل يوم تترك لها الساحة الوطنية مباحة يزيد تغولها وهدمها لكل أركان التعايش.

كان بقاء صالح يمنح اليمنيين أملاً في تعافي البلد وعودته إلى سابق عهده حتى وهو في أضعف أوقاته، وبعد رحيله وتمزق حزبه وعجزه عن التأثير، أصبح الحوثي هو المعادل الموضوعي ليس للشرعية مهما كانت خطاياها بل للإصلاح كحزب ديني، ليتم وضع مصير اليمن بين طرفين لا يؤمنان بالتعايش، حتى لو كانت المقارنة لصالح الإصلاح، كونه حزباً سياسياً.

ماتت النقابات وأولها نقابة المهن التعليمية التي أرغمت الحوثيين على دفع راتب المعلمين في آخر عمل مطلبي قامت به في عهد صالح، ولم يعد هناك نقابة قادرة اليوم على الدعوة للإضراب بأي شكل، لأنها بلا حماية من جبروت جماعة كان صالح قادراً وحده على كسر قبضتها بشكل ناعم، وبخطاب واحد، كما فعل عندما رفض تعديل المناهج في أغسطس 2017.

لم يقتل الحوثيون صالح نتيجة قوتهم، ولا ضعفه، ولكن إزاحته كانت ضرورة لتنفيذ السيناريو المرسوم للبلد، والذي لن ينجح إلا بعد تفريغ الساحة من القوى السياسية والوطنية المؤثرة، وينسد أفق الأمل أمام المواطن.

أطلق البعض على صالح لقب (صدام الصغير) منذ مطلع التسعينات، ولم يكن الأمر بعيداً عن الشبه، فقد قُتل الرجلان على يد تيار طائفي عنصري واحد، وبطريقة شجاعة ومشرفة، وارتفعت جماهيريتهما بعد مقتلهما أكثر مما كانت في حياتهما، وصعدت إلى السلطة قوى أسوأ بكثير من أسوأ ممارساتهم كحكام.