فيصل الصوفي

فيصل الصوفي

فصل المقال في أزمة حزب المؤتمر (2)

Thursday 17 January 2019 الساعة 08:48 am

لمّحنا في المقال السابق إلى أحد التبريرات التي ترافق مساعي ودعوات توحيد طاقات المؤتمر الشعبي.. من الضروري توحيده تحت قيادة موحدة لكي يكون جاهزاً كفاية لإدارة السلطة غداً. أو لأن الأشقاء والأصدقاء يدعوننا إلى توحيده، وأنهم يرغبون بذلك!

ولدينا ما نعلقه على تبرير من هذا القبيل.. نعم، قبل أن يمنى المؤتمر بالنكسات المتلاحقة التي سنأتي على ذكرها لاحقاً،  ظل المؤتمر الشعبي حزب الأغلبية النيابية، وكرر أغلب الناخبين تفضيلاتهم لمرشحيه في كل المحطات الانتخابية الرئاسية والمحلية التي شاهدتها البلاد منذ العام 1997 على الأقل، ومن الغرابة أن تكون جاذبيته غير مفهومة، أو تصبح مدعاة للمكابرة من قبل بعض الأفراد والجماعات. فعلى الرغم من محدودية الموارد الاقتصادية للبلاد، ارتبط اسم المؤتمر واسم رئيسه رئيس الجمهورية السابق علي عبد الله صالح بكل مظاهر التقدم الذي تحقق لليمنيين في مجال التنمية الاقتصادية، وفي خدمات التعليم والصحة، ولجهة الاستقرار الأمني، فضلاً عن ما ارتبط بالتجربة الديمقراطية كالحريات العامة والخاصة والمساواة، وتمكين سياسي للمرأة لا بأس به، وحرية التعبير والتجمع، وقد كانت مكاسب سياساته الخارجية المتوازنة تغطي جزءاً كبيراً عن نقص الموارد الاقتصادية، إذ كان القبول العربي والغربي لها يعبر عن نفسه بكثير من أشكال الدعم والمساندة للشعب اليمني، من بينها المنح والمساعدات المالية، التي بدأت في الارتفاع منذ صنفت اليمن ضمن مجموعة دول الديمقراطيات الناشئة، وكانت الوحيدة في إقليمها، وربما وجدنا في طول فترة صالح في الرئاسة بعض التفسير، فقد حظي بصفته تلك وبصفته رئيس حزب المؤتمر بنصيب من هذا النوع من الدعم، وفقاً للاعتراف الذي أدلى به لشعبه ضمن خطابه الأخير في الرابع من ديسمبر 2017، فقد صارح شعبه بكلام كان يعد من قبيل الأسرار، ومؤدى كلامه إنه لم يقبض ريالاً واحداً من ممتلكات الدولة، وأنه لا يخفي على شعبه أن مدخراته ومساكنه وعقاراته مصدرها مساعدات دون مقابل (غير مشروطة) كان يقدمها له الأشقاء أثناء الانتخابات الرئاسية، إذ كانوا يرون -حسب تبريره- أن هناك نظاماً معتدلاً، لا يفرط بسيادة اليمن، وله مواقف قومية وعروبية تجاه مختلف القضايا، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية!  

الأمر الآخر هو أن خصوم المؤتمر كانوا ينظرون إليه نظرتهم إلى سمكة سوف تموت إذا أخرجت من بيئتها الطبيعية. ظلوا يلوكون أسطورتهم المعاصرة المشهورة، وهي أن المؤتمر حزب سلطة، يستمد قوته من الجيش وأجهزة الأمن الكثيرة، ومن المال العام والوظيفة العامة والإعلام الحكومي، وأيضاً من السمعة الحسنة لرئيس الجمهورية علي عبد الله صالح الذي يترأس المؤتمر في الوقت نفسه، وأنه سوف يتضعضع بمجرد فقده مكامن القوة هذه، إلا أن المؤتمر أسقط هذه الأسطورة منذ غادر السلطة نهاية العام2011. واليوم وهو في أتعس حالاته ما يزال قائماً وموضوع تنافس القريبين، ومحل تقدير البعيدين، على الرغم من أن رئيسه صالح ترك الرئاسة، ثم غاب عن الدنيا، ولم تعد الحكومة حكومته، ولا الجيش جيشه -لم يكن جيشه أصلاً- ولا المال العام تحت إدارته، ولا الإعلام الحكومي تحت تصرفه، أما الوظيفة العامة التي كان المؤتمر وما يزال يقول إنها لليمنيين كلهم جميعاً: الاشتراكي والمؤتمري والإصلاحي والناصري والبعثي والمستقل، فقد آل معظمها للحركة الحوثية في محافظات الشمال الخاضعة لسيطرتها، أما الخاضعة للشرعية كمحافظة مأرب ومناطق من تعز والبيضاء والجوف فللإصلاحيين إلى جانب الإعلام الحكومي بشتى وسائله، والجيش الوطني بجميع ألويته وكتائبه وسراياه، ولا داعيَ لذكر حال المؤتمريين في محافظات الجنوب، لأن المعروف أنهم صاروا مثل أهل الذمة!

بقى المؤتمر واستمر، على الرغم من كل تلك الجوائح وفقده أي تأثير في الحكومة الشرعية التي غدت ما تحتها بيد غيره ومنهم خصومه أنفسهم، الذين يديرون شئون البلاد منذ نحو ست سنوات، فوصلت إلى ما وصلت إليه بحكم سياساتهم وأنماط تفكيرهم، وعبقرتهم! ومن هنا يرى كثيرون أن حزب المؤتمر الذي جاء في وقت يحتاج إليه اليمنيون قبل أكثر من ثلاثة عقود، ما تزال حاجتهم الشديدة إليه قائمة، وما يزال هو في حاجة لتفكير جديد لقياداته كي تصلح حاله الآن، وكي تطوره غداً.

حمادى القول إن الأزمة الراهنة لحزب المؤتمر استقطبت اهتمام عدد كثير من المؤسسات الرسمية العربية والغربية، التي عبرت عن هذا الاهتمام من خلال حث ومساعدة قياداته في الخارج من أجل البحث عن طريقة تحظى بالقبول تخرج الحزب من أزمته، وهذا الاهتمام بدأ مبكراً على أية حال، وهو يعكس المكانة التي يحظى بها في السياستين الإقليمية والدولية. وبهذا الشأن قرأنا وسمعنا كلاما كثيرا.. يقول سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى اليمن ماثيو تولر إن المؤتمر يحمل أجندة وطنية ويتمتع بعلاقات طيبة مع جيران اليمن، وإنه أجرى ويجري اتصالات بين قيادات المؤتمر في الخارج وفي صنعاء بدأها قبل اغتيال صالح وما تزال مستمرة، لبلورة رؤية يرى أنها سوف تساعد الحزب على الخروج من أزمة القيادة، ربما من خلال التوصل إلى وفاق بين هذه القيادات حول التشكيلة القيادية للحزب، فهي المعنية بتكوين قيادة الحزب واختيار رئيسه، أما نحن فنساعدها فقط، وليس من حقنا اتخاذ قرار. تحدث تولر بهذا في مؤتمر صحفي في العاصمة المصرية حوالى منتصف شهر أغسطس الماضي، وبدا السيد تولر في نفس الوقت محبطاً ربما بسبب بطء استجابة القيادات المؤتمرية في القاهرة والرياض للرؤية التي يعرضها، إذ قال: حتى الآن ما يزال الانقسام الداخلي في المؤتمر قائما وما يزال أمام أعضائه السير على طريق طويل قبل التوصل إلى اتفاق. وعدا عن هذا المثال الأمريكي، هناك أمثلة أخرى كثر، لا نرى ضرورة لعرضها، لأن الفكرة الجوهرية لهذا المقال لا تقتضي ذلك، وحسبنا إشارات سريعة كما في الموقف الروسي، الذي عبر عنه السفير قبل فترة قريبة، ويتلخص في أن حزب المؤتمر الذي يحظى باحترام جميع دول العالم، ينبغي على قياداته إخراجه من الأزمة التي يعانيها لكي يقوم بدوره المهم في المستقبل، وترى بعض الدوائر المصرية والإماراتية أن حزب المؤتمر لابد له من قيادة موحدة قوية، تتمتع بالقدرة الكافية على مجابهة المشكلات السياسية والاقتصادية والأمنية التي حاقت باليمن في حال تصدره لها، وغني عن القول أن دول الجوار –باستثناء قطر- كانت وما تزال تنظر إلى المؤتمر الشعبي كصمام أمان للوضع اليمني، واستقرار الحياة السياسية فيه، وقد تشاركت حكوماته السابقات مع حكوماتها في كثير من القضايا. واليوم تظهر دولة الإمارات العربية المتحدة رغبة واضحة في أن يكون المؤتمر الشعبي صاحب النفوذ الأول في شمال اليمن، وترحيبها بمؤيدي أحمد علي على أرضها، وتقديم التمويل والدعم اللوجستي لقوات ابن عمه طارق في الساحل الغربي يفسر بعض جوانب ذلك الاهتمام، بينما يفهم الرئيس هادي أن دعم دول الجوار له لا ينفصل عن دعمه كرئيس للمؤتمر الشعبي، وحديثه لقيادات المؤتمر في القاهرة تضمن إشارات واضحة بهذا الخصوص. ولاحظنا أن أربعة على الأقل من قادة المؤتمر البارزين في الخارج الذين يتحدثون مثل الريس هادي عن مزايا المؤتمر في عيون الأجانب، جاءت أحاديثهم بعد مقابلات غير بروتوكولية مع سفراء غربيين، وظهر لنا من خلال أحاديثهم القصيرة أن الأزمة الراهنة للمؤتمر لم تكن وحدها الموضوع الرئيسي في جميع تلك المقابلات، بل أيضا التجربة المجيدة، وهذا ليس من قبيل السخرية، فنحن أمام قضية تستحق الجدية والصراحة.

إن هذه الرسائل الخارجية وغيرها كثير، وباعثها المتمثل في تراث حزب المؤتمر أو تجربته السابقة في السلطة باتت تفهم من قبل القيادات المؤتمرية في الخارج، على أن ثمة توجها إقليميا ودوليا نحو تفضيل حكم المؤتمر الشعبي على أي خيارات أخرى في مرحلة ما بعد الحرب، وهم يعتقدون أيضا أن المتغيرات الإيجابية السياسية والاجتماعية والفكرية التي تحدث في البيئة الإقليمية المجاورة، وأحد مظاهرها التوجه الليبرالي ومكافحة الإرهاب وتصنيف جماعات الإخوان ضمن المنظمات الإرهابية المحظورة، يجعل المؤتمر خيارا مفضلا، والكاتب سمع مثل هذا المقال من غير قيادي في المؤتمر أحدهم كان نائبا أول لرئيس المؤتمر. وعلى أساس هذا الفهم أو الاعتقاد لم يبق سوى أن نغمض عيوننا لبعض الوقت، ثم نفتحها لنرى أن هذه القيادات قد ارتقت سلم السلطة مكللة بالرضا الإقليمي والدعم الدولي.

إن مثل هذا القول ضرب من الأماني، وهو إن كان يرضي النفوس، ففيه أيضا خداعها والعقل. ليس هذا باعتقاد رصين بل هو توهم.. فمن جهة أن دولة إقليمية مثل السعودية قد حظرت جماعة الاخوان المسلمين، لكن من الناحية العملية هي الداعم الثاني بعد قطر لحزب التجمع اليمني للإصلاح وهو جماعة إخوان مسلمين أصلا، وما يزال محافظا على صلاته التنظيمية والسياسية والأيديولوجيا بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، كما يقوي صلاته بتركيا أردوغان التي تسعى لتكون مركز التأثير الإسلامي الأول بعد إغلاق باب النادي الأوروبي في وجهها.. فهذا مثال. 

ومن جهة ثانية إن ذلك المخيال السياسي يتجاهل أصحابه أن المتغيرات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وتقلبات السياسة لا تذهب إلى جهة واحدة محددة وتبقى عندها، وإلا فكلمات عربية مثل متغيرات ومستجدات وتقلبات تفقد معانيها، ومن جهة ثالثة أن هذا التفكير يسبق القضية الأساسية، وهي قضية خروج حزب المؤتمر من أزمته أولا، وإعادة عافيته إليه ثانيا، إلا إذا كانوا يعتقدون أن الشتيت يتوافر على عوامل جذب أو  تفضيل.. ومن جهة رابعة أن التحديات المتراكمة والمتعاضدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية وغيرها، بفعل الأزمة السياسية ثم الحرب، أكبر وأقوى من أي حزب مهما بلغت ريادته أو عظمت قيادته. سوف يفشل أي حزب يقرر اختبار قدراته على إدارة السلطة في الفترة التي تعقب الحرب، فاليمن تحتاج لتحالف جهود وخبرات وقدرات جميع القوى السياسية الفاعلة لخمس سنوات على الأقل، وهذا في أكثر التقديرات تفاؤلا. ومن قبل ومن بعد إن المؤتمر لا يليق به ولا بتاريخه وتاريخ مؤسسه، أن يغدو ذيلا، ولا مقبول من أي مجموعة فيه أن تعد نفسها لتغدو وكيلا محليا لرعاية مصالح أي دولة.. وبعد البيان الواضح في هذا المقال والذي سبقه يأتي كلام الأزمة المؤتمرية.

(*) عضو اللجنة الدائمة الرئيسية