حكيم الجبلي

حكيم الجبلي

الحاضر دليل لفهم ماضي اليمن مع الإمامة!

Friday 05 April 2019 الساعة 01:16 pm

▪إذا جاز للمرء أن يتخذ الحاضر دليلاً لإعادة قراءة وفهم الماضي، بالقدر الذي يجوز له به اتخاذ الماضي دليلاً لشرح الحاضر، فقد تنتهي تأملاته في وقائع اليوم إلى الافتراض المرير بأن "الإمامة" لم تكن تمثل قضية إشكالية يدور حولها الصراع واتجاهات السياسة وتيارات الجدل الفكري، مولاة ومعارضة، إلا في صنعاء وما يُعرف بشمال الشمال - النطاق الذي أضحى "زيدياً" بسبب التعاقب، غير المنتظم، لحكم الأئمة الهادويين فيه.

أما بالنسبة إلى باقي اليمن، خارج هذه المنطقة، فالإمامة بحد ذاتها لم تكن على الدوام هي القضية التي تتشكل منها وحولها مادة السياسة والصراع والجدل، بل كانت القضية -بلغة اليوم- تتمحور حول "التحرر" وتحقيق الاستقلال الذاتي تجاه أي دولة مركزية، وخصوصاً تلك الدول والممالك، ومنها الإمامة الهادوية، التي كانت تجعل من مرتفعات شمال الشمال نقطة انطلاق للهيمنة على باقي اليمن!

أعرف أن الأمور في الواقع أكثر تعقيداً مما نحاول تصويره هنا. وليس من السهل إثبات الافتراض السابق بالطرق العلمية بحيث يمكن تعميمه بعد ذلك على قطاع طويل من التاريخ يصل مداه إلى عشرة قرون. فلنعتبره، إذن، مجرد فرضية أولية مطروحة للبحث والاختبار والتدبر. وأياً تكن النتائج، سوف يتحتم علينا أن نتعامل معها كلها بطيبة خاطر.

والآن يتوجب عليّ أن أشرح بإيحاز هذا الافتراض: من المسلَّم به أنّه خلال الألف عام الماضية كان الجزء الأطول من الصراع السياسي في "المنطقة الزيدية" يجري بالتناوب إمّا بين أئمة علويين متنافسين وكلّ منهم يستند إلى أصول الشرعية ذاتها التي وضعها الإمام الهادي الرسي، والقائمة على النسب العلوي الفاطمي.. أو بين الأئمة من جهة، والمارقين كلياً عن مبدأ حكم البطنين من جهة أخرى.
غير أن الحال خارج المنطقة العليا من اليمن لم يكن مؤلفاً من نفس العناصر وعلى نحو متزامن. فالموقف من الإمامة، معها أو ضدها، يكف هنا عن أن يكون هو مدار النقاش والاهتمام. القضية سرعان ما تغدو إمّا رفضاً أو قبولاً للمنطقة المركزية العليا، "الزيدية"، هذه المرتفعات التي ساهمت مؤثرات تاريخية وطبيعية في وضع مجتمعها على درجة من التمايز مع مجتمعات اليمن الجنوبي (اليمن الأسفل) واليمن الشرقي والسهل التهامي الغربي. غير أن عامل الجغرافيا، الذي يشمل التضاريس والمناخ، هو ما يصنع الفارق الأساس في الميول والسمات الشخصية وأنماط التنظيم بين سكان منطقة وأخرى، أكثر مما يمكن أن تفعله تعاليم المذاهب والأيديولوجيات بأنواعها.

إن دواعي ومعطيات وآليات الرفض، خارج المنطقة العليا، بل وحتى الهدف النهائي الذي يتجه إليه فعل الرفض، كانت مجزأة ومتباينة في جميع الجهات عما هي عليه في اليمن الأعلى! نحن نتحدث عن الزمن السابق لثورة 1962.

هكذا، وبالاتجاه جنوباً، وربما شرقاً أيضاً، تتلاشى إمكانية أن ترفض الإمامة كإمامة ضمن مجال سياسي وطني واحد، أي أن ترفض بما هي صيغة جائرة على كل اليمنيين لكونها تعطي الحق الحصري في الحكم للعلويين الهاشميين (أي للعدنانيين الوافدين في المجال القحطاني، إذا جاز لنا استخدام هذا الوصف من منظور الانقسام القديم على أساس أسطورة انتساب العرب إلى فرعي قحطان وعدنان).

عوضاً عن ذلك، كانت تبرز في الجنوب والشرق، وقد نضيف الغرب التهامي، أي في كل جهة من هذه الجهات على حدة، إمكانيات وأشكال أخرى للرفض والتمرد على الإمامة، إمكانيات تنطلق إما من حساسية مذهبية (شافعية)، أو نزعة محلية مناطقية، أو من كليهما معاً، وهو ما يخلق مناخاً عاماً تظهر فيه الإمامة بوصفها قوة سياسية وعسكرية مناطقية، وذلك بحكم أنها نبتت وترعرعت من تربة ما يسمى "اليمن الأعلى"، بسكانه القبليين الذين يتحولون، بفعل علاقتهم النديّة ببعضهم البعض، وبفعل تنافر إراداتهم السياسية وقسوة الحياة في الجبال، إلى مخالب طويلة للإمامة، هذا الوحش الكريه المتوج بعمامة النسب "الشريف".

وإذا كانت الإمامة قابلة للظهور في صنعاء وشمالها كتعبير عرقي سلالي (عدناني)، على سبيل المثال، فإنها ما إن تتمدد إلى جنوب ووسط وغرب اليمن حتى تغدو أكثر قابلية للظهور كتعبير سياسي مناطقي "زيدي". وقد نجح الأئمة، إلى ما قبل سبتمبر 1962، في تكريس درجة من التلاحم الذهني بين مؤسستهم السياسية والمجتمع في جغرافيا المرتفعات الشمالية من اليمن.

يترتب على ذلك أنه إذا كان الأمل يحدو اليمنيين في (شمال الشمال) إلى الانعتاق من نظام الإمامة.. فإن إخوانهم اليمنيين في الجنوب والغرب والوسط يحدوهم أمل من نوع آخر يتمثل في الانعتاق من (شمال الشمال) نفسه، إمامه وشيخه وسلطانه وأوله وآخره. والجهد المبذول لجعل المشكلة مع الإمامة مشكلة تخص جميع اليمنيين خارج الشمال نادراً ما كان يحظى بالنجاح. كلما كنت جنوبياً أكثر زادت صعوبة استشعارك للقضية كما يستشعرها شخص من شمال الشمال.

والسبب، في نظري، يكمن في أن الإمامة، كقضية، كانت تحسم أولاً داخل النطاق الزيدي، أما بعد أن يجري حسمها هنا بالتغلب العنيف على كل العوائق، وبعد أن تتجه إلى خارج هذا النطاق، فإنها تكون، حينها، قد أصبحت تلوح باعتبارها مشروعاً زيدياً، بالمعنى الاجتماعي والجغرافي، للتوسع والهيمنة، وهو ما كان يستدعي ردة فعل من جنسه. لكن هذا السبب ليس سوى نتيجة لسبب آخر لم يتسنَ للعلوم الاجتماعية اكتشافه حتى الآن.

وتحضر في هذا الصدد حكاية ذات مغزى رواها القاضي الارياني في مذكراته. الحكاية تتحدث عن اعتراض الشيخ عبدالله الأحمر على مشروع تقسيم طرحه المصريون للنقاش في الستينات من القرن الماضي، ينص على فصل صنعاء وشمالها عن مناطق جنوب صنعاء. قال الأحمر، خلال اجتماع مع المصريين، وبإيعاز من القاضي الارياني كلاماً هذا فحواه: "هل تظنون أنكم سوف تسلمون رقابنا لبيت حميد الدين وللسعوديين ثم ندعكم وشأنكم للنجاة بمفردكم.. هذا غير مقبول، فإذا تريدون التخلي عنا فنحن من جانبنا سنغير موقفنا من بيت حميد الدين ونصطف معهم ونأتي إليكم في تعز وغيرها".