فهمي الكاشف

فهمي الكاشف

بمناسبة 21 الأسود: "الحق الإلهي" النقيض الرئيسي للحكم الجمهوري

Monday 23 September 2019 الساعة 08:19 pm

 

(2-2)

▪إذا لم تكن "الجمهورية" صيغة حكم بديلة للحكم الديني، وإذا لم تكن نقيضاً حقيقياً لخرافة "الولاية" و"الحق الإلهي"، فلا كانت جمهورية ولا تستحق أن تحمل اسمها، وبالذات في بلد معقد التكوين مثل اليمن.

بالمناسبة، الأنظمة الملكية الوراثية، بقوة العرف والتقليد، يمكن تطعيمها ببعض السمات الجمهورية بما يجعلها أقل طغياناً وأكثر كفاءة ومعقولية.

أما الإمامة، كنموذج صارخ للحكم الديني، فإن من المتعذر -ولو جزئياً- التوفيق بينها وبين المبدأ الجمهوري، لأن الإمامة نظرية تعطي "الإمام" سلطة مطلقة لا يقيدها شيء، تجمع بين الحاكمية الدينية الروحية والحاكمية الزمنية.

في شمال اليمن قامت الجمهورية ضد نظام الإمامة في الوقت الذي كان قد شرع في التحول تدريجياً إلى شكل من الملكيات الوراثية على النحو الذي كان سائداً في الدولة المجاورة.

وفي اللغة السياسية الشائعة في اليمن كثيراً ما كان يجري استخدام مصطلحي "الملكية" و"الإمامة" بنفس المعنى تقريباً. فقط في الدراسات الأكاديمية والبحوث والتحليلات التاريخية يتم التمييز بين المفهومين.

ومن المسائل التي يندر أن تطرق الأسماع هي أن بعض المشاركين في ثورة 26 سبتمبر كانوا ضد "الملكية" في نظام بيت حميد الدين من منطلق زيدي إمامي وليس من أرضية جمهورية خالصة. لم يكونوا ضد فكرة "الإمامة" بل ضد إخلال آل حميد الدين بشروطها الحقة!

وليس ببعيد أن يكون سبب غياب هذه المسألة عن الأذهان عائد إلى عدم أهميتها، إذ إن القضاء على نظام بيت حميد الدين كان بالدرجة الأولى قضاءً على الإمامة بذاتها حتى لو اتخذت لبوساً ملوكية أو حتى جمهورية.

ومع ذلك، من الضروري كتابة تعقيب وجيز على كل من انطلق في تأييده لثورة 26 سبتمبر 1962، من أرضية غير الأرضية الجمهورية: إن من يقول إن بيت حميد الدين قد استحقوا الثورة عليهم فقط لأنهم تجاوزوا مبادئ الإمامة الحقة، يوحي كما لو أن الإمامة تكون أفضل وأرقى من دون اكتسابها ملمحاً ملوكياً! الصحيح هو أن التحول الملوكي كان، في ذلك الوقت طبعاً، بمثابة ترقية لنظام الإمامة، وليس انحطاطاً يستوجب معاقبته عليه بالثورة من أجل إعادتها إلى وضعها الأصلي بلا ملوكية!

وكأن الإمامة في وضعها الأصلي الصافي تسر الناظرين!
لقد قام النظام الجمهوري في شمال اليمن، بوصفه عملية ترسي مبدأً بديلاً لمبدأ حكم البطنين ولنظرية "الولاية" التي لا يجد الحوثيون حرجاً في الاحتفال بها بطريقة مبالغ فيها لا تنسجم بأي حال مع مزاعمهم بأنهم جمهوريون.

وكان يوهانس ألتيوسيوس (1636 -1557)، وهو عالم قانون ألماني من معتنقي المذهب المسيحي الكالفني وأحد أهم المنظرين للفكرة الجمهورية على النموذج الروماني الذي انطلق منه لتشييد نموذج الجمهورية الاتحادية، يعتقد بأن هناك نقيضين رئيسين لأشكال الحكم الجمهورية: ملكية الحق الإلهي والفوضوية. وما عدا هذين الشكلين يمكن أن يكون جمهورياً طالما يعترف بمبدأ سيادة الشعب ورقابته على القوانين التي يسنها لنفسه.

▪الحوثيون يقولون انظروا إلى أي درجة نحن جمهوريون! وإليكم الدليل: إنه مهدي المشاط. إن وجود المشاط في منصب كهذا لا ينفي الكهنوتية ولا الإمامية، لسبب بسيط يمكن طرحه عبر هذا السؤال: هل الإمام يحيى حميد الدين كان جمهورياً لمجرد أنه أبقى على كبار موظفي الإدارة العثمانية الأتراك في ولاية اليمن واستخدمهم في دولته وزراء ومستشارين وقادة عسكريين وخبراء وما إلى ذلك؟ بل كان وزير خارجيته وصانع سياسته رجلاً تركياً هو القاضي محمد راغب.

ثم إنه ليس بغريب في تاريخ الإمامة استعمال موظفين وأمراء حتى من فئة "العبيد". في أربعينيات النصف الأول من القرن التاسع عشر كان هناك شخص يدعى "فيروز"، وهو أحد الأمراء العبيد الذين برزوا في شمال اليمن. كان فيروز في البداية عبداً لدى والي الحديدة "سعد يسر" والذي اصطحبه معه إلى صنعاء بعد وصول الحملة المصرية إلى سواحل اليمن، عام 1836، فانقلب في صنعاء خصماً لسيده الأول وأصبح فيروز بعد ذلك نافذاً وموثوقاً وصاحب حظوة لدى الإمام الهادي محمد بن المتوكل الذي حكم أجزاء واسعة من شمال اليمن قرابة ثلاث سنوات ونيف حافلة بالتمردات والاضطرابات. كانت أول مهمة كلفه بها الهادي هي سجن سيده السابق "سعد يسر" ومصادرة أملاكه.

ويذكر المؤرخ العمري في "مئة عام من تاريخ اليمن" أن فيروز اشتهر بالغلظة والبطش بخصوم الإمام دون رحمة. في وقت لاحق قيل إنه كان على اتصال خفي بالانجليز في عدن وإنه أراد أن يكتب لهم وثيقة تمليك في عدن باسم الإمام وختمه الذي كان في عهدة فيروز يتصرف به كيفما يشاء.

وبصرف النظر عن مصير فيروز، بل ومصير "مولاه الإمام"، فالشاهد هو أن بروز أشخاص كموظفين أو أمراء وعبيد في كنف حكم الإمامة ليس ابتكاراً خاصاً بالحوثيين وليس برهاناً على أنهم جمهوريون.