فهمي محمد

فهمي محمد

تابعنى على

الشورى وإشكالية الانتصار للسياسة والدولة

Thursday 31 March 2022 الساعة 05:27 pm

كما قلنا إن السياسة في عهد الراشدين بدأت وكأنها معنية بكل الأحوال في ترسيم مقاليد السلطة السياسية في يد الخلفاء الراشدين من قريش، حتى الشورى كفكرة سياسية إسلامية معنية بتأسيس النظام السياسي الجديد في المدينة المنورة بناءً على المصلحة السياسية والاجتماعية للجماعة الإسلامية، أصبحت أي الشورى كفكرة سياسية تتحول تدريجياً إلى قيمة أخلاقية ليس إلا، بدلاً من أن تترجم في الواقع السياسي إلى مبادئ عملية ملزمة وآليات سياسية معنية بتأسيس مجال سياسي إسلامي مفتوح أمام كل الطامحين في تولي مقاليد السلطة والدولة من خارج قريش، بدليل أن سعد بن عباد الزعيم الأنصاري الذي كان طامحا في تولي مقاليد السلطة والخلافة الإسلامية ولم يبايع أحدا من الخلفاء منذ اجتماع السقيفة، مات بعد ذلك مقتولاً في ظروف غامضة حتى اليوم (أول اغتيال سياسي في تاريخ المسلمين) وقيل في اغتياله إن الجن قتلت سعد لأنه تبول قائماً وكأن سعد بن عباد لم يكن يعرف أحكام التبول في الإسلام وهو أحد صحابة رسول الله الكرام، بمعنى آخر الشورى المعنية في تحديد ملامح النظام السياسي في الإسلام أو التي يقدمها اليوم تيار الإسلام السياسي على أنها معنية بهذا الإنجاز، لم تستطع حتى في عهد الراشدين، رضي الله عنهم، أن تنتصر للسياسة المدنية وللمجال السياسي المفتوح بالمعنى الذي يجعل منها -أي الشورى- قادرة على تقديم أحد الصحابة أو أحد المسلمين من خارج قريش بكونه صاحب حق سياسي مشروع كغيره من المسلمين في المنافسة المشروعة على تولي مقاليد السلطة السياسية للخلافة الإسلامية التي حكمت دولة المسلمين قرونا طويلة، وأسست سياسياً وايديولوجياً خلال تجربتها التاريخية «الاقتتالية» هذا الإرث السياسي للعرب المسلمين لا سيما وقد تحول هذا الإرث السياسي في حاضرنا إلى جهاز مفاهيمي (ديني مذهبي) أكثر من كونه سياسيا يعمل على نفخ الروح في ثقافتنا السياسية الاستبدادية، كما سوف نوضح ذلك لاحقاً.

نغوص أكثر في الحديث السياسي في صلب الموضوع ونقول إن الشورى وإشكاليتها في مسألة عدم الانتصار للسياسة والدولة في عهد الراشدين تتجسد بكونها عمليا أصبحت غير معنية سياسياً وبشكل صارم في حماية الأصل السياسي (حق الجميع كأفراد مسلمين بتحديد طريق الوصول إلى الخلافة واستحقاقها في نفس الوقت) كون الانتصار العملي لمقولة «في هذا الحي من قريش» قد حسم بشكل مبكر قاعدة منهم حكام السلطة ومنهم المحكومين، في دولة الخلافة الإسلامية بناءً على مخرجات السقيفة، الأمر الذي حول الشورى في هكذا حال إلى مجرد مشورة لاحقة تتعلق بحق الخليفة باستشارة بعض أصحابه في اتخاذ بعض القرارات من عدمها بغض النظر عن الكيفية التي أصبح من خلالها خليفة، وهذا بحد ذاته قصر سياسياً من عمر زمن الخلافة الراشدة التي لم تتعد الخلفية الرابع، كما أنه بعد ذلك أدى إلى سؤال عدم إلزامية الشورى بمعنى المشورة، هذا من جهة أولى.. ومن جهة ثانية فإن تحويل الشورى إلى مشورة في عهد الراشدين، انعكس عملياً على تحويل الأصل فرعا والعكس، فبدلاً من أن تكون الجماعة المحكومة هي صاحبة الحق في الابتداء بخصوص تعيين من هو الشخص الذي يستحق أن يكون خليفة عليهم، أصبح الخليفة هو من يحدد شخص من يكون هو الخليفة بعده، ثم يأتي المجتمع في عملية مصادقة سياسية للقرار المتخذ، فالخليفة أبوبكر هو من عين عمر خليفة بعده وعمر هو من حدد الستة الذين يجب أن يكون خليفة المسلمين منهم، وأكثر من ذلك هؤلاء الستة هم وحدهم المعنيون سياسياً في عملية اختيار الخليفة٠

إذًا الشورى التي كانت معنية عمليا في عهد الخلفاء الراشدين «على مستوى الفكر والتنظير وحتى الممارسة السياسية العملية» في خلق السياسة كفكرة وفعل سياسي في مجتمع لم يمارسها، بل تحويلها إلى علم سلطة ودولة في مجتمع لم يعرف الدولة، نجدها فشلت في أول اختبار لها في معركة الانتصار لمفهوم السياسة والدولة وهو ما سهل بعد ذلك عملية الانقلاب الأول على السياسة بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وتحويل سلطة الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض يتوارثه الأبناء من فتيان وغلمان بني أمية وبني العباس وجميعهم من قبيلة قريش، كما أن فشل الشورى الإسلامية المبكر منذ سقيفة بني ساعدة في الانتصار للسياسة كفكرة وفعل سياسي، تزامن هو الآخر مع حركة التمرد السياسي الذي عبر عن نفسه بعدم توريد أموال زكاة بعض الأمصار إلى سلطة الخليفة «القرشي» في المدينة، الأمر الذي دفع الخليفة أبوبكر الصديق، رضي الله عنه، لاستخدام سلطة الخلافة الإسلامية الراشدة في إخماد هذا التمرد السياسي الذي حدث في اليمن وغيرها.

بغض النظر عن توصيف ما حدث في بداية خلافة أبو بكر الصديق، بكونه تمردا سياسيا على مآلات استحقاق السلطة في هذا الحي من قريش أو كان ردة اعتقاد عن اعتناق دين الإسلام، فإن استخدام السلطة السياسية للخلافة الإسلامية الراشدة في إخماد ما حدث خارج نطاق المدينة المنورة، شكل اعتقادا مبكرا لدى الصحابة بأن السلطة والدولة وجدت لحماية بيضة الإسلام ليس إلا، ومع هذا الاعتقاد أصبح الإسلام مصدر السلطة والدولة كما نجد ذلك في قول الخليفة عثمان حين طلب منه التنحي عن الخلافة (لن أخلع سربالا ألبسني الله) لا سيما وأن فشل الشورى الراشدية في إحضار الإرادة السياسية للمجتمع بشكل عام في تقرير شكل السلطة السياسية ومن هو الخليفة عزز من هذا الاعتقاد الذي يقول إن الإسلام هو مصدر السلطة (على إثر غياب الإرادة السياسية للمجتمع أو الاقتدار السياسي) ما يعني في النتيجة النهائية أن فشل الشورى الإسلامية في حماية السياسة الذي تزامن مع إشكالية مصدرية السلطة والدولة قد سهل على خُلفاء المُلك العضوض بعد عهد الراشدين مهمة توظيف الدين الإسلامي عن قصد متعمد في خدمة السياسة «السلطوية» وتكريس ثقافة الاستبداد السياسي باسم الدين الإسلامي، لذا فإن أحد الإشكالات التاريخية في إرثنا السياسي تتجلى في تعاطي السلطة وعلماء السلطة، مع المعارض السياسي بكونه باغيا وخارجا عن الجماعة الإسلامية وكافرا بشرع الله عقوبته القتل والتعزير، وليس بكونه صاحب رأي ناقد للحاكم أو صاحب موقف سياسي تجاه مسألة السلطة والدولة.