محمد العلائي

محمد العلائي

تابعنى على

"الشيعة الإمامية" ومأزق "ابن تيمية"

Tuesday 21 March 2023 الساعة 07:56 am

ابن تيمية (توفي 1328م) واحد من أشد خصوم "الشيعة الإمامية" صلابة.

ومع ذلك، لم يستطع في زمنه الوقوف وجهاً لوجه ضد أحاديث نبوية، مصنفة عند أهل السنة ما بين "الصحيح" و"الحَسَن"، تتضمن إشارات متفرقة إلى أفضلية بني هاشم على قريش وأفضلية قريش على العرب وأفضلية العرب على غيرهم من الأجناس.

بل إن ابن تيمية، وهو المخلص العنيد للأدلة النقلية على الرغم مما يتمتع به من ذكاء وسعة اطلاع مذهلة بالأديان والمذاهب، يقول في أحد أكثر كتبه شُهرة: "ولا ريب أن لآل محمد صلى الله عليه وسلم حقاً على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر بطون قريش، كما أن قريشاً يستحقون من المحبة والموالاة ما لا يستحقه غير قريش من القبائل، كما أن جنس العرب يستحق من المحبة والمولاة ما لا يستحقه سائر أجناس بني آدم.

 وهذا على مذهب الجمهور الذين يرون فضل العرب على غيرهم، وفضل قريش على سائر العرب، وفضل بني هاشم على سائر قريش، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره"، (ابن تيمية، منهاج السنة، جـ4 صـ599).

ثم يضيف مستشهداً بهذين الحديثين إلى جانب أحاديث أخرى: "إن الله اصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم"، وحديث: "الأئمة في قريش".

من المعروف أن ابن تيمية في مناظراته الغزيرة مع خصومه كان يتوسل شيئا من العقل والمنطق، لكن فقط عندما لا يتعارض العقل والمنطق مع النصوص النقلية الصريحة -المعترف بها لدى أهل السنة- من القرآن والحديث. 

عند النقطة المتعلقة بالتفضيل، يشعر القارىء بمأزق ابن تيمية وارتباكه، بما أنه فقيه ورجل دين: لم يستطع إنكار التفضيل بالنسب والجنس، ولم يستطع قبوله دون تحفظ.

كان عليه أن يسلك طريقاً وسطاً بين فريقين: 

- من أنكروا التفضيل بالنسب مُطلقاً -كأصحاب مذهب "الشُعوبية" وهو اسم أطلق على المسلمين من غير العرب كانوا لا يرون للعرب فضلا عليهم. 

- ومن ظنوا "أن الله يفضل الإنسان بنسبه على من هو مثله في الإيمان والتقوى"، وهؤلاء هم الشيعة على وجه الخصوص.

لبلوغ غايته، اعتمد ابن تيمية على حيلة سجالية معقدة تتكون من خطوتين: 

الاعتراف بفضل بني هاشم وقريش والعرب، طالما أن هناك أحاديث تنص على ذلك، ومن ثم إعادة تأويل هذه الأفضلية على نحو ينزع عنها صفة الإطلاق التمييزي العنصري التي تتنافى مع قاعدة المفاضلة الوحيدة المعترف بها في عموم الإسلام السنّي، وهي الإيمان والتقوى، انطلاقاً من الآية {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، (سورة الحجرات، آية 13).

استغرقت منه المسألة عددا كبيرا من الصفحات في سياق الرد على رجل شيعي يسميه في كتابه بـ الرافضي. 

وخلاصة موقفه فيها، أن التفضيل بالنسب كان تفضيلاً على الجُملة وهو "فضيلة لأجل المظنة والسبب"، وأن تفضيل الجُملة على الجملة لا يقتضي تفضيل كل فرد على كل فرد. 

في حين أن التفضيل بالإيمان والتقوى، كما يقول، هو تفضيل على التعيين الفردي والتحقيق والغاية.

فأفضلية قريش أو العرب أو بني هاشم كنسب قائمة فقط على "مظنة" أن يكون فيهم من الخير أعظم مما يوجد في غيرهم، إنما هذا لا يعني نفي أن يكون هناك من خارج دائرة هذه الأنساب من هو أفضل بعمله وتقواه.

ويوضح قائلاً: "فلا بد أن يوجد في الصنف الأفضل ما لا يوجد مثله في المفضول، وقد يوجد في المفضول ما يكون أفضل من كثير مما يوجد في الفاضل"، (منهاج السنة، ص603).

فإذا كنت نبياً من غير العرب فأنت أفضل من العرب الذين ليسوا أنبياء، "والمؤمنون المتقون من غير قريش أفضل من القرشيين الذين ليسوا مثلهم في الإيمان والتقوى"، وهكذا تسري القاعدة نفسها على بني هاشم.

من الواضح كم هو وعر الطريق الذي سار فيه ابن تيمية للتوفيق بين التفضيل ونفيه!

إذا لم تكن عربياً، عليك أن تكون "نبياً" لكي تكون أفضل من العربي العادي. 

هذا ما يمكن فهمه من ظاهر كلام ابن تيمية. 

مع أنه لم يكن يقصد ذلك بالتمام، وإنما أراد القول أن التفضيل ليس على وجه الإطلاق، وإلا لكان أنبياء الله من غير العرب أقل رتبة من العربي العامي أو الفاجر أو الكافر.

يذكر ابن تيمية لتعزيز موقفه حديثا عن النبي يقول فيه: "من بطأ به عمله لم يُسرع به نسبه"، ويضيف: "فالفضيلة بنوع لا تستلزم أن يكون صاحبها أفضل مطلقاً"، (منهاج السنة، ص607).

ثم يختتم مرافعته الصعبة بالقول: إن الاعتبار العام في التفضيل هو التقوى، "فكل من كان أتقى كان أفضل مطلقاً، وإذا تساوى اثنان في التقوى استويا في الفضل، سواءً كانا -أو أحدهما- غنيين أو فقيرين، عربيين أو أعجميين، أو قُرشيين أو هاشميين".

فإذا كان لأحدهما (القرشي أو الهاشمي أو العربي) من سبب الفضيلة ومظنتها ما ليس للآخر (من غير قريش أو بني هاشم أو العرب)، وإذا كان هذا الآخر قد أتى بحقيقة الفضيلة فإنه أفضل ممن لم يأتِ بحقيقتها (ولو كان قرشياً هاشمياً عربياً).

من حيث النتيجة، انتهى ابن تيمية -كما رأينا- إلى رفض التفضيل بالجنس والنسب، لكن مع اعترافه بالنصوص التي تدل عليه.

لم يهتم ابن تيمية ببحث ما يمكن أن ينشأ عن الإقرار أو عدم الإقرار بهذا التفضيل من استحقاق سياسي. 

لقد انشغل بدلاً عن ذلك بمناقشة الفضل على مستوى الإيمان والتقوى والمكانة عند الله. 

غير أن منطقه ذاته لا يبدو أنه يتغير في الجانب السياسي. 

فقد كان يرى أن -الإمامة والسلطنة والخلافة- لا تنعقد ولا يتحقق مقصودها في الواقع بالأفضلية على أساس النسب أو الجنس، ولا تنعقد بالأماني والرغبات، بل ولا حتى بالتقوى والصلاح الشخصي، وإنما بالجدارة السياسية وقوة الشوكة، تنعقد لأي شخص بالإرادة والقدرة على إنفاذ الأمر والنهي، لا بادعاء الحق المجرد بموجب الفضل في النسب. 

هذا الرأي بالذات هو على النقيض من كل ما يدور حوله إيمان الشيعة ومقالتهم في الاجتماع والسياسة.

*   *   *

من الآراء الغريبة المتأخرة للشاعر السوري أدونيس قوله في حوار صحفي عام 2015، إن "دمشق منذ أيام معاوية لم تُخرج مفكراً واحداً عظيماً باستثناء ابن تيمية الذي أحترمه رغم اختلافي معه، لقد عرف كيف ينتقد المنطق اليوناني وكيف يتحاور مع العالم". 

بل وأضاف: "كم تمنيت لو أن هؤلاء المسلمين اليوم يقلدونه ويحاكونه بعقله ودقته ومنطقيته، ماعدا ذلك جميع الأشخاص باستثناء شكري القوتلي من خارج دمشق".

قبل ذلك، وفي كلمة ألقاها عام 2013 في المؤتمر الدولي السوري في جنيف، قال أدونيس، إن معاوية بن أبي سفيان أنشأ الدولة العربية الأولى التي "حملت البذور الأولى للثقافة المدنية وكانت النواة الأولى للفصل بين الدين والدولة".

قلت إنها آراء "غريبة" لسبب واحد فقط وهو أنها صادرة عن أدونيس. 

أما مضمونها فمن الممكن الاتفاق أو الاختلاف حوله. وليس هذا موضوع المنشور.

يبدو لي أن الاستعادة الاحتفالية من جانب أدونيس لـ معاوية وابن تيمية قد جاءت لتتسق من الناحية الرمزية مع موقفه المناوىء للثورة التي اندلعت في سوريا ضمن ما سُمي بـ"الربيع العربي"، وتسببت في الكثير من الموت والدمار.

لكن من جانب آخر، فهذه الاستعادة الاحتفالية تضع أدونيس في تناقض مع أشهر مواقفه وأفكاره القديمة في سبعينيات وثمانينات وتسعينيات القرن الماضي، عندما كان -كغيره من المثقفين والأدباء العرب ذوي الميول اليسارية- بحاجة لنماذج تاريخية تلهم "الثورة" و"التمرد" و"العصيان" بدلاً عن كل ما يشير إلى "السلطنة" و"المُلك" و"الدولة" و"النظام". 

كانوا يفعلون ذلك باسم شعارات ومبادىء أخلاقية وأحلام كثيرة، حيث بدا أندونيس في تلك الفترة وكأنه النصير الوفي لـ"المتحول" ضد "الثابت"، ولـ"الإبداع" ضد "الاتباع"!

ليس عيباً أن يتناقض الرجل، العيب فقط التغرير بالقارىء وعدم إشعاره نهائياً بوقوع التناقض بحد ذاته أو حتى تبيين دواعيه وحيثياته.

*جمعه "نيوزيمن" من منشورات للكاتب على صفحته في الفيسبوك