حكيم الجبلي

حكيم الجبلي

"تحرير" الحوثيين من صنعاء!

Friday 18 May 2018 الساعة 11:37 pm

الحديث يدور عن "تحرير" صنعاء من الحوثيين. لم يجرب أحد طرح المسألة بشكل معكوس لكي تصبح هكذا: 
"تحرير" الحوثيين من صنعاء وأعباء صنعاء!
وهذه الصيغة الأخيرة تعلن، إلى جانب معناها المباشر، أن للحوثيين مصلحة أكيدة في إجلاء قواتهم عن صنعاء. للوهلة الأولى تبدو فكرة كهذه غريبة وربما فارغة من المعنى. 
لكنها في العمق ليست كذلك. وإليكم الأسباب:
صنعاء تحمِّل الحوثيين عبء خطاب ونهج وطنيين ليسوا أهلاً لحملهما بحكم تكوينهم الخاص، وبالنظر إلى ما تمثله صنعاء كعاصمة لليمن الموحد. إنها تفرض عليهم أن يكونوا غير ما هم عليه.
أي أن واقعة سيطرتهم على صنعاء، باعتبارها مركز الدولة اليمنية، مثلما رأوى فيها غنيمة سهلة، إلا أنها من زاوية أخرى قد وضعتهم في موقف سلطة "انقلاب" يقع عليها أن ترتدي رداء الدولة الوطنية وأن تتمنطق بمنطقها الذي يقوم على مخاطبة وتعبئة المشاعر الوطنية الجامعة، وبالتالي تبرير كل سياساتها وخطواتها ضمن مجال الدولة وبحسب مصالحها العليا. وهو ما لم يكونوا قد أعدوا أنفسهم له على الإطلاق.

إنها لمهمة مستحيلة، علاوة على أنها لا تتفق مع مادة بنائهم الأصلية كجماعة متمردة نشأت وانتظمت على قاعدة دينية جزئية تفتقر لخصائص الفكرة التوحيدية الجامعة، في بلد متعدد المذاهب، الأمر الذي أوقع الحوثيين في حالة تعارض مع أسس وقواعد الدولة الوطنية.

من المفيد أن يفكر الحوثيون في الانكماش إلى مجالهم الضيق القديم كجماعة منشقة كانت قبل الاستيلاء على العاصمة تبرر حيازتها لأدوات العنف وممارستها له بالقول إنه عمل من أعمال الدفاع عن النفس، بدلا من مهزلة تسويغ ذلك بربطه بأهداف وغايات وطنية كبرى من قبيل السيادة والاستقلال. 
بهذه الطريقة يستطيعون خفض الاشتراطات التي يطالبهم بها وجودهم العسكري المنفرد في مركز الدولة وعاصمتها، الاشتراطات التي بدون درجة كافية من الامتثال لها يمسي الخطاب الوطني ضجيجا أجوف خاليا من المعنى وبلا مصداقية.
لكن هل لا يزال ممكنا التراجع إلى النقطة التي كانوا فيها مجرد جماعة لا تتعدّى مطالبها الحصول على الاعتراف ومحاولة تحسين مكانتها ومستوى تمثيلها في إطار الدولة؟
إن عملا كهذا، لو قاموا به، ينطوي على فائدة واحدة مضمونة وهي أنه سيعفيهم من حرج التناقض بين واقع سلوكهم "الانفصالي" المهيِّج للطائفية، وبين الدعاوى الوطنية الكبيرة التي يعلنون أنهم يناضلون من أجلها. بدون صنعاء يصبح الحوثيون منسجمين مع واقعهم ومع هويتهم السياسية كل الانسجام، تلك الهوية التي تجعلهم أقرب ما يكونون إلى ظاهرة من ظواهر التطييف والتقسيم المنتشرة في بعض دول منطقة الشرق الأوسط.

ضعف الانسجام، بالنسبة إلى جماعة من هذا النوع، هو بلا شك عنصر هشاشة وترهل، مقارنة بوضعية الانسجام التي تساعد على تركيز القوة داخل نطاق محدد لمدة أطول.
لا تحدثني عن الوطنية إذا لم تكن وطنيا في فكرك ولفظك وانحيازاتك، وإذا لم يكن الإطار الذي تعمل من خلاله يتصف في بنائه وأساليبه وأهدافه بصفات توحيدية عابرة للطائفة والمكان والعرق.

التدابير والتكتيكات ومجمل تصرفات الحوثيين، لا يمكن يُنْظَر إليها إلا بالقياس إلى ما إن كانت مطابقة لكل ما يعلنونه من أهداف وادعاءات عن تمثيلهم لقضية وطنية.. بينما واقع تلك التصرفات والتكتيكات يجعل من الصعب الدفاع عنها إلا بالمنطق الداخلي لجماعة قضيتها الجوهرية إعادة تمكين نظرية حكم مذهبية.

صنعاء، بصفتها عاصمة لليمن الموحد، تفرض، بشكل تلقائي، معيارا عاليا للحكم على صلاحية سياسات وخطاب من يسيطر عليها، يصبح الاطار الوطني باتساعه الجغرافي الممتد من صعدة إلى سقطرى هو ما يحدد أساس الحكم على أخلاقية كل سلوك عام.

أن تستولي على السلطة في عاصمة الدولة، مع إقرارك المعلن بوظيفتها ومكانتها كعاصمة ومركز للدولة، فهذا يعني بالضرورة أنك جازفت بوضع ممارساتك وخطواتك موضع التقييم وفقا لما إن كانت ملائمة وبناءة بالنسبة لكافة مواطني الدولة من مختلف المناطق والمذاهب والجهات، وليس فقط وفقا لما إن كانت ملائمة لتنظيمك أو أتباع مذهبك أو سلالتك أو منطقتك.

في إطار المسرح الداخلي لجماعتك، تستطيع، ببساطة، الدفاع عن الوقائع التي قمت من خلالها بتغييرات عميقة طالت مجالات عمومية عدة: الجيش والقضاء والتعليم والإعلام، لكن على المستوى الوطني لن تجد ما يمكنك قوله لإقناع الناس خارج حدود الجماعة.

يمكنك أن تحصل على درجات ممتازة لو تم تقييم أدائك وأعمالك من وجهة نظر ما يسمى محور "الممانعة"، لكن من وجهة نظر أهدافك "الوطنية" المعلنة عن السيادة والاستقلال والصمود والاقتصاد والإدارة والنزاهة، لن تحصد أي درجة مقبولة. أنت صمدت كجماعة لكن البلد منهار وممزق ومستباح ومحاصر. بالفعل استطعت أن تشكل إزعاجا للسعودية من وجهة نظر الصراع القائم بينها وبين إيران. لكن عدّد لي مجموع الفوائد التي جلبتها لليمن؟

يمكن أن تحصل على درجات ممتازة لو تم تقييم وضعك الراهن من وجهة نظر مذهبية، أو من وجهة نظر أهدافك الخاصة ذات الطابع الطائفي والمصاغة في أدبياتك وفي موادك التثقيفية الداخلية. لكن جرّب معيانتها في النطاق الوطني الكبير لترى كيف ستبدو بغيضة وهدامة ومخزية!