حكيم الجبلي

حكيم الجبلي

كيف عرَّى الحوثيون أنفسهم إلى آخر قطعة

Thursday 06 December 2018 الساعة 02:23 pm

لقراءة الحلقتين الاولى والثانية من تأملات في الخطوط التي قادت إلى ديسمبر الأسود 2017)

الحلقة الاولى: في قلب صالح.. هادي والإصلاح ورمح الحوثي الصدئ
الحلقة الثانية: كيف تجنب صالح “نغالة” الحوثي 3 سنوات


في مارس 2015، أطلق تحالف تقوده السعودية حملة عسكرية في اليمن استجابة لطلب قدمه الرئيس المعترف به دوليا عبدربه منصور هادي.

حينئذ، لم يكن أمام صنف واسع من اليمنيين الكارهين العنيدين للحوثيين سوى التعبير عن إدانتهم ورفضهم لهذه الحملة ووصفها بالعدوان بل والمشاركة في الدعاية ضدها وحتى القتال والتجييش. لقد وجد هؤلاء في هذا الخيار - الأداة الممكنة الوحيدة التي تبقت لهم لممارسة كراهيتهم ومناهضتهم للحوثيين من دون أن يتناقضوا بشكل صارخ مع أهم مبادىء ضميرهم الوطني، وأيضا من دون أن يكشفوا أنفسهم لبطش الحوثيين المنفلت.

لم يكن موقف هذا الصنف الذي يتألف من كارهين للحوثيين، أو مصدومين وذاهلين حيال المشهد الفاجع لانهيار الدولة المركزية، حين زحفت على العاصمة ميلشيا تحمل على عاتقها مهمة إعادة نظام الإمامة بما تنطوي عليه هذه العملية من فظاعة أليمة بالنسبة لكل الوطنيين - لم يكن موقفهم مجرد أسلوب ظرفي لمداهنة الحوثيين مقابل الأمان من شرهم، ولم يكن فقط استسلام ذليل لأحكام الضرورة وإكراهات اللحظة المشؤومة، بل كان، إلى جانب كل ذلك، موقف ينم عن حصافة سياسية من السهل تسويغها والدفاع عنها في 2015 بحسابات السياسة والأخلاق، وقد كانت هذه أبرز مسوغاته:

أولا، هو موقف يتفق، من حيث الشكل، مع أغلب أخلاقيات ومبادىء الوطنية التقليدية التي تنبذ التدخلات الأجنبية بأنواعها، والتي تنبذ التدخل السعودي بشكل خاص لاعتبارات تاريخية وجغرافية وحساسية ذات صبغة ثقافية و"طبقية"، إن صح التعبير.

وثانيا، كان هذا الموقف تكتيكا ناجحا، لأنه يحمل في طياته ضمانا لصاحبه أو للجهة التي تتبناه بحصانة نفسية وأخلاقية ضد سلاح التخوين الفعال الذي يستخدمه الحوثيين حتما لأغراض دنيئة إذا ما قرر هذا الشخص أو الجهة إعلان معارضته لهم وتشكيل جبهة وطنية لإسقاط حكمهم. فأصحاب هذا الموقف كانوا يعتبرون قضية رفض "العدوان" أكثر أهمية من أن تترك للحوثيين وحدهم، لكن موقف كهذا كان يقتضي منهم غض الطرف عن ارتباط الحوثيين، ايديولوجيا ولوجستيا، بمحور إقليمي تتزعمه إيران.

ثالثا، المشاركة في تبني هذه القضية من منطلق وطني مغاير لمنطلقات الحوثيين، التي هي في العمق دينية مذهبية تدور حول ولاية آل البيت وتأسيس الإمامة الزيدية كعائد سياسي يعتبرونه مستحقا، وغلة مشروعة يحصدونها لقاء نضالهم باسم الشعب ضد غزو خارجي - هذه المشاركة من شأنها أن توفر أرضية صلبة أخلاقيا وقوة معنوية لأي معارضة يمكن أن تنشأ ضد الحوثيين بعد انتهاء التدخل السعودي الذي كانت احتمالات نجاحه ضعيفه.

رابعا، هذا الموقف يستند إلى حيثيات تتغذى من شكوك حقيقية قوية حول قدرة السعودية وتحالفها العسكري على تحقيق أهدافهم المعلنة المتمثلة بإسقاط الحوثيين ودحرهم من كل المحافظات وعلى رأسها العاصمة.

كان الرئيس صالح وأنصاره وأكثرية قيادات حزبه، يندرجون ضمن هذا الصنف بالذات الذي كان يضم أيضا أعداد كبيرة من المواطنين المستقلين والناشطين الحزبيين أو المنشقين عن أحزابهم. وكان للرئيس صالح اعتبارات إضافية لرفض التدخل العسكري بقيادة السعودية الذي وضع صالح والموالين له كهدف أساسي للغارات الجوية.

مع مرور الوقت، بدأ الحوثيين يضيقون ذرعا من صالح وحزبه. كان المؤتمر وأنصار الرئيس السابق يشكلون كتلة كبيرة وفعالة، وبدا كأنها قد أخذت تتقاسم مع الحوثيين ما يعتبرها هؤلاء "نعمة" وغنيمة تخصهم وحدهم، إذ كانوا يرون في "العدوان" منصتهم الإلهية الذهبية لبناء صرح الإمامة القديم على حطام البيت اليمني.

الحوثيين، بحكم نشأتهم الخاصة ورسالتهم المتناقضة إلى حد كبير مع مفهوم ومكونات الوطنية اليمنية الحديثة، وجدوا في مسألة مواجهة "عدوان" خارجي المجال الوحيد الذي يمكنهم من خلاله اكتساب هيئة ومظهر المدافع عن "الوطن"، الوطن كما يفهمونه بالطبع.

لهذا السبب ظهروا منذ البداية مهووسين جدا بتوزيع عبارات التخوين والتشكيك والمزايدة ونفي الوطنية حتى عمن كانوا يشتركون معهم سياسيا وعسكريا في الموقف من التدخل السعودي من منظور وطني مختلف عن منظور الحوثيين الذي يتكون من مادة دينية مذهبية.

بالنسبة لحلفاء الحوثيين السابقين (صالح وحزبه)، فإن "العدوان" لم يكن يوما يمثل لهم فرصة من أي نوع لتأكيد وطنيتهم أو لتعميق سيطرتهم ونفوذهم، بل هو آفة ومصيبة كبرى وكارثة ماحقة حلت على البلاد.. بينما كان "العدوان" بالنسبة للحوثيين فرصة مثالية نادرة أكثر من كونه أي شيء آخر، بل إنهم أصبحوا، مع مرور الأيام، وخصوصا بعد أن اطمأنوا إلى أن التحالف السعودي لن يحقق أكثر مما قد فعل، تواقين إلى إبعاد كل من يفكر في أن يشاطرهم الاستفادة المعنوية والسياسية من هذه الفرصة إلا إذا آمن بالولاية واندمج في ماكينتها.

(لكن، بالمقابل، الجماعات والقوى السياسية والقيادات التي اختارت أو اضطرت، من أول لحظة أو في وقت لاحق، أن تقف في صف التحالف بقيادة السعودية، لديها، هي الأخرى، بفضل الحوثي طبعا، ما يكفي من الأسباب والحجج، المتنوعة والمتباينة في وجاهتها وقوة مصداقيتها، بحيث تستطيع أن تسوغ موقفها وطنيا، وأن تدافع عنه بخطاب متماسك الأركان).

في ديسمبر 2017، قرر الحوثيين الإنقضاض على شريكهم الرئيسي في رفض ومواجهة "العدوان"، وهو الحدث المزلزل والصادم الذي تسبب في دفع موجة كبيرة من الرافضين للحوثي وللتدخل السعودي معا، إلى التخلي عن قضية رفض التدخل السعودي، وتركها للحوثيين، والانتقال إلى الضفة الأخرى، إما بشكل فعلي أو الانتقال بعواطفهم ودخائل نفوسهم. بقي جزء من كتلة صالح محتفظا بموقفه السابق من التدخل العسكري السعودية رغم كل ما حدث.. وهذا الجزء من كتلة صالح في صنعاء، يعتقد أن الشروط والدواعي والمعطيات التي تأسس عليها الموقف من التدخل السعودي لم تتغير بمقتل صالح. رغم أن الوزن السياسي لهذا الجزء من كتلة صالح تناقص إلى أدنى درجة. لكن كثير من قيادات المؤتمر المتبقين في صنعاء محكومين بظروف قاهرة وتعقيدات أمنية والتباسات وطنية.

لقد برهنت أحداث ديسمبر استحالة أن تكون فاعلا مع الاحتفاظ بوطنيتك متكاملة العناصر، ثم تأمن في نفس الوقت من بطش وكيد الحوثيين. إن جماعة من هذا الطراز لا تقبل بك، وتطمئن إليك، إلا إذا اعتنقت مفهومها، الرث والشائه، عن الوطنية، المفهوم الذي تقع في صلبه نظرية "الولاية"، وما يدخل في بابها من وسائل وأنماط تعبير وسلوك.

تريدك أن تخون شيئا أصيلا في عقيدتك الوطنية اليمنية الجمهورية، وأن يصبح موقفك من التدخل الخارجي مجرد طريقة أخرى للعمل في سبيل تحقيق الفكرة الطائفية الإمامية الناسفة للكيان الوطني.

الهدف الأساس لجماعة الحوثي هو الولاية والإمامة. ولما كانت فرصة بلوغ هذا الهدف عبر موالاة السعودية منعدمة في العقود الأخيرة من تاريخ اليمن، فقد أخذ الإماميون الطريق الآخر الممكن لبلوغ نفس الهدف: العداء للسعودية وخلق ظروف أمنية تحملها على تغيير سياستها من الرفض إلى الاعتراف.

وبعد أحداث ديسمبر تجلت حقيقتهم عارية تماما ومكشوفة كأنقى فضيحة.