حكيم الجبلي

حكيم الجبلي

الإماميون.. التجسيد التاريخي لـ قلَّة العقل!

Sunday 17 February 2019 الساعة 05:09 pm

في حسابه على تويتر، وفي نوبة من نوبات التبجح الصبياني الكاريكاتوري، غرد القيادي في جماعة الحوثي حسين العزي بما معناه أن "اليمن" حالياً تمارس حقها الطبيعي في القيادة التاريخية للعالم العربي والإسلامي...إلخ إلخ.

واليمن التي يتحدث عنها العزي هي، بلا شك، يمن "السيد" العلوي الفاطمي، يمن الإمام أمير المؤمنين. وإلا عن أي يمن يتحدث؟ البلد المحطم المستباح المنقسم المزعزَع المتناحر!

وفي الحقيقة، هذا الشطط المجافي للواقع، ليس بغريب البتة على الإماميين. إنهم التجسيد الكامل لقلة العقل! فعند كل حالة انبعاث للإمامة الزيدية في اليمن، تحيط بالإمام الصاعد هالة كبيرة سوداء من المبالغات والتهاويل عن خطورة شأنه، ومن التقييمات والتوقعات الخارقة عن الاحتمالات التي تكتنف أهداف دعوته.

هكذا جرت العادة -بعد أن يحالف الحظ أحد الأئمة بتحقيق بعض التوسع داخل اليمن معتمداً في ذلك على زراعة الرهبة في نفوس الناس من خلال العنف المنهجي وسياسة البطش بالخصوم- أن يبدأ سقف الأهداف بالارتفاع مع ارتفاع توقعات وآمال أتباع الإمام الذين يسقطون في ما يشبه الاستيهام الجماعي المخمور خلف هدف ضبابي مقدس بعد طول حرمان، أي إنهم يفقدون تماماً الصلة بالواقع الحي.

وما تلبث التهويمات الصاخبة للإمامة وأتباعها أن تتخطى الهدف البسيط بتأسيس دويلة في اليمن إلى ما هو أكبر: غزو بلاد المسلمين جميعاً وإخضاعها لحكم الإمام الذي كان يتلقب في فترات مختلفة ب أمير المؤمنين. وكثيراً ما رأى هذا الإمام أو ذاك نفسه منافساً بديلاً للخليفة العباسي أو الفاطمي أو الأيوبي ثم الدولة العثمانية. "كل من لم يقنع بأن يكون أميراً على قومه أو قائداً على قبيلته، وادعى إمارة المؤمنين، يضع بذلك نفسه في موقع المناوئ للخليفة القائم، ويعلن عن نية إخضاع سائر المسلمين لشروط البيعة (الانقياد مقابل الحماية)"- (العروي، موجز تاريخ المغرب).

وتبين رسالة من الحسن بن محمد النساخ، أحد فقهاء المطرفية، إلى الخليفة العباسي في بغداد، كيف ينشأ مناخ تنتقل فيه عدوى المبالغة والتضخيم من أتباع الإمام إلى نفوس ضحايا وخصوم الإمام الصاعد.

والنساخ، بحسب كتاب علي محمد زيد "معتزلة اليمن"، هو أحد رجال المطرفية الذين نجوا من مذبحة أوقعها بهم الإمام عبدالله بن حمزة في منطقة قاعة "ولجأوا إلى مسور ثم وقش وبعد خرابها هرب النساخ إلى آنس". وهناك كتب النساخ رسالة إلى الخليفة العباسي الناصر لدين الله يستنجد به لنصرة المطرفية في اليمن "والاستعداد لإطفاء نار تأججت باليمن، أذكى وقودها قائم من بني الحسن، تمالى أهل اليمن على نصرته... ولقد قدر علينا واستظهر".

وتوضح الرسالة، طبقاً لكتاب "معتزلة اليمن" أن "طموح عبدالله بن حمزة لا يقتصر على اليمن فحسب، بل إنه يستعد للاستيلاء على الخلافة العباسية بأكملها، بما في ذلك الشام والعراقين".

ولا يبدو أن الرجل اليمني، كاتب الرسالة، كان يصطنع التهويل بدافع التأثير الفعال على الخليفة العباسي وبث الخوف إلى نفسه، وهو الذي كانت دولته في بغداد على درجة من الوهن لا يجدي معها أي تهويل أو تخويف، بل إنه على الأرجح كتبها وهو فريسة لمشاعر الفزع والارتياع المتولدة عن المذبحة المروعة الشهيرة التي حدثت لأهله وجماعته من المطرفيين على يد الإمام عبدالله بن حمزة. فهو في رسالته يستخدم نبرة مذعورة مفرطة في الانفعال وفي وصف الخطر ومداه: "هي والله إحدى الكبر، التي لا تبقي ولا تذر، اللهم إلا أن تنهضوا إليه جيلاً بعد جيل، وتعدوا للجلاد السواعد والسيوف الحداد، فعسى تحمى بحماها بغداد".

لقد كان يكتب من موقف نفسي مشابه لموقف أحد الضحايا والمشردين والمنكوبين على يد الحوثي.

ويذهب علي محمد زيد، في كتابه عن معتزلة اليمن، إلى أن مبالغة النساخ في تصوير قوة الإمام عبدالله بن حمزة للخليفة العباسي ناشئة عن حالة الهلع الذي أصاب كاتب الرسالة وأمثاله "وهم يشاهدون أهلهم يذبحون ونساءهم تسبى وبيوتهم تهدم ومساجدهم تحرق وتهدم، ويرون أنفسهم مطاردين بفتوى الكفر والردة على رغم صلاتهم وصيامهم، وتهجدهم وزهدهم".

ويضيف زيد: "ومؤرخو الإمامة يأخذون تلك المبالغات في تصوير قوة الإمام على أنها حقيقة واقعة، ويستنتجون منها استنتاجات تاريخية. ومع ذلك، تدل الوقائع التاريخية على أن قوة ذلك الإمام لم تكن من القوة كما صورتها رسالة ابن النساخ. إذ لم تصمد أمام عودة الأيوبيين لاحتلال صنعاء، فقد خرج الإمام منها دون مقاومة. وبعد موته في مطلع 614 هجرية 1216 ميلادية تمزقت دولته ببساطة".

وفي كل مرة، من تاريخ الإمامة، سرعان ما تصطدم هذه المبالغات والأوهام المجنحة، التي ترافق انبعاث "الإمامة"، بالحقائق المادية الصماء، ثم يذعن أصحابها، بعد كلفة باهظة، لما يجوز لنا أن نسميها ب"حتمية الجغرافيا السياسية" التي تنطلق هذه المشاريع منها.

ولم تخفق التطلعات الإمامية في تخطي حدود اليمن الطبيعي فحسب، بل إنها نادراً ما استطاعت مد نفوذ دولة الإمام على كامل الجغرافيا اليمنية. وبقي معظم تاريخ الإمامة يتمحور في المرتفعات الشمالية من اليمن.