عبدالفتاح الصناعي

عبدالفتاح الصناعي

تابعنى على

بقايا الثورة والعبث في صنعاء ومأرب واسطنبول!

Tuesday 29 October 2019 الساعة 07:18 am

تعودت بأن أنشعل بقضايا مختلفة وأتفرد بآراء مغايرة، فهكذا شخصيتي دون تكلف، أشق مسارا مختلفا عن الجميع، ولم يهمني يوماً إطلاقاً مواقف الأصدقاء والرفاق وآرائهم باختلافها.. بقدر ما يهمني أن تبقى بيننا أقل ما يكون من العلاقة الرسمية ولو كانت على مضض مع البعض.

فأنا غريب الأطوار حقا تمر علي أشهر لا أقرأ ولا أتابع منشورات الأصدقاء واحيانا حتى المواقع الإخبارية.

أمس لأول مرة أجد منشورا أشعرني بأهمية قراءة موقف هكذا.. منشورا صغيرا لمانع سليمان فيه صورة هادي والزبيدي ومعنى المنشور بأن هادي انتصر على الجميع لأنه رئيس فذ، مع أنه لا يملك حزبا ولا قبيلة.

عرفت مانع سليمان إنسانا شهماً ورفيقاً رائعاً، في الحقيقة لم أختلف يوما أنا ومانع وكذلك لم نتفق، -على الأقل بشكل مباشر- كشأن علاقتي بكثير من الأصدقاء والرفاق.

ولا أقصد هنا نقدا ولا عتابا ولا تأييدا.. أحترم كل الآراء مهما أختلفت معها، ولا أسفه أي رأي يكون نابعا عن قناعة ومبدأ.

لا أحد منا يمتلك الحقيقة المطلقة وآراؤه مقدسة، جميعنا ينطلق من تجربته ومن ظروفه ومزاجه في تكوين آرائه ومواقفه.

وكل ما اقصده هو مناقشة هذا الموقف والرأي من مزاج الثائر العام وظروفه الشخصية، والمبررات التي يستند إليها، وإمكانية دحضها، انطلاقاً من تجربتي الشخصية في هذا.

كغيري مررت بمحطات ومخاضات وتناقضات وتحولات وتغيرات وتطورات مختلفة في بلورة آرائي ومواقفي.

في 2014 كنت أجد نفسي مؤيدا "انقلاب 21 سبتمر" وبعد أن رأيت جميع القوى انقلبت ضد هادي -خصوصا الإخوان والحوثي والعفاشيين- لم أعرف نفسي أني وقفت في صف أحد وقاتلت معه بكل شراسة ليلا ونهارا كما كنت في تلك الفترة مع هادي وخضت النقاشات والجدالات مع الناس. وصديقي العزيز أحمد مفضل المهدي شاهد على هذه المرحلة.

لربما ما زال إلى حدما تأييد هادي عند البعض هو تعببر عن بعض معاني الضيق بكل أطراف الصراع، وأنه لعل هادي يمثل الدولة الوطنية المحايدة من الجميع، ومع أنه لم يعد الوقت مناسبا لهذا الاعتقاد الذي يبدو متخلفا، مع كل ما ظهر من مساوئ هادي وأخطائه الكبرى وعجزه المقيت.

ومع هذا فما زال البعض ممن يؤيدون هادي يبررون لكل عجزه وعبثه بمنطق الواقع والأطراف الأخرى التي تعتبر هي الأسوأ -على الأقل من وجهة نظرهم- وكذلك أيضا المواقف والسياسات الدولية التي ما زالت تتخبط في مواقفها وسياساتها بشأن اليمن.

نعود لمانع فهو حقا شخصية ثائرة بطبيعته، وجميع الشخصيات الثائرة لا تفقد ثوريتها حتى تموت، فحين تختلط الأوراق تجد الثائر يخلط في ثوريته معاني متناقضة فهو إما يسعى للمثالية ويتناقض مع فكرة المثالية بنفس الوقت، أو يجنح للتبريرات الواقعية فينقلب إلى ثائر ضد المبادئ الثورية التي اعتنقها قبل، أو يتماهى مع المزايدات الثورية الشكلية وشعاراتها المبالغة بكل فشلها وتناقضاتها.

غالبا من يأتي من السياسة إلى الثورة لا يهمه تدنيس قيم الثورة وأخلاقياتها، ويكذب باسمها كما يكذب بعض رجال الدين باسم الله، فالموقف الإخلاقي هو آخر ما يفكر به، فلا يهمه إلا استغلال الثورة في كل مراحلها بكل طرق الكذب والزيف والتناقض. وتوكل كرمان أنموذجاً واضحاً لهذا، فهي أتت من السياسة إلى الثورة بدون وعي سياسي وإنما كأداة وأجندة لسياسات أخرى، وتحولت من الثورة إلى السياسة بأنها أصبحت أداة أكبر، ومن الطبيعي بأن من يكذب بأنه حر وثوري وهو أجندة وأداة لسياسات معينة، يكون كما توكل الآن بدون أي وعي لا سياسي ولا ثوري ولا ضمير أخلاقي ووطني، وإنما الانتقال من زيف إلى زيف ومن كذب وتناقض إلى كذب وتناقض آخر.

وبالتالي فهي وصلت إلى مرحلة من السفه تظن بأنها قادرة على تقسيم الثورات على دول الخليج والعالم وكأن الثورات لا تمضي إلا بإرادتها وتوقيعها كما توقع الشيكات من الأرصدة التي حظيت بها بسبب الثورة.

وذلك بخلاف الحالات الثورية الأصيلة التي أتت إلى السياسة من الثورة، فلا تزال الثورة عندها ضميرا ولو بأقل ما يمكن، ولو تبريرا، ولو القيام بمعان ثورية مجزأة على أطراف معينة، المهم أن تظل تشتعل داخله نيران حقيقية للثورة بأي شكل.

وبكل ما في هذا من مخاطر شخصية عليه، أو حتى مبالغات ومثاليات، فإنه يفضلها على أن تسلب ثوريته، لأنها بنظره أشرف من أن يتم تدجينه تحويله إلى وسيلة وأداة للتبرير والقمع والمغالطات.

ومانع يعد نوعاً أصيلا لهذه الحالة الثورية، وبعيدا عن التفاصيل فقد ضاق به منصب رسمي في جيش شرعية مأرب، وتخلى عنه ليعود يقود ثورة أو تمردا على الإصلاح وجيش مأرب، وعلى الأقل فهو قد امتلك الجرأة لفتح باب النقد والنقاش لمجال كان يعد محظورا وخطا أحمر خروج قضاياه ومشاكله إلى النقاشات الإعلامية أو على وسائل التواصل الاجتماعي.

هذا لا يعني أبدا بأني أدافع عن مواقف مانع ولا أصححها ولا أكذبها ولا اقوم بالحكم عليها ونقدها وتمحيصها، وإنما هي قراءة عامة للمزاج الثوري وتحولاته، وأن لجوء الثائر للإيمان بالسلطة يأتي بالنسبة لموقف الثائر موقفا ثوريا ضد الأطراف الأخرى خصوصاً حين يكون رئيس يظهر بالضعف والاستضعاف من القوى الأخرى. ومع إن هذا قد لا يعد مبررا كافيا إطلاقا يقنع نفسية الثائر، فعلى الأقل سلبية هادي وآلياته ووسائله تحتاج لثورة عليها، لكن قد يبرر هؤلاء لأنفسهم بأنه لا يمكن لهم الحرب على كل الجبهات بنفس الوقت.

أعرف أن مانع كشأننا جميعا غالبا مانضج بمزايدات ومبالغات تعبيرا عن اليأس والعجز في مواجهة الواقع والصدمات الكبيرة التي تلقيناها.

ولكن هل الوقت مناسب لمحاسبة الأخطاء الصغيرة التي قد يكون على الأقل الجزء الأكبر منها عفويا، لشباب مشكلته انه امتلك الأمل والحماسة، في وطن تعيث فيه كل القوى السياسية مكرها وفسادها؟

صديقي الكاتب الرائع ماجد زايد، أنموذجاً آخر مختلفاً ومتقارباً ومتشابهاً مع أنموذج مانع سلمان.

ماجد الكاتب الثائر الذي يتأمل بتفاصيل الواقع ويغذي مفرداته الكتابية على الألم والوجع الشعبي.. حين يشعل قلمه للثورة فهو يحدد أهدافه بالشخصيات النخبوية الثقافية والسياسية، وهي عنده روح أصيلة تنطلق من أعماقه وعززتها تجربته الشخصية وانصداماته بالشخصيات النخوبية، كما هي تجاربه مع الأطراف السياسية لكن ثورته على الأشخاص، خصوصاً المؤثرين على النخبة الشبابية، ولأن هذه النخبة تبيع الزيف والوهم إلى الحد الذي استعذبه بعض الشباب حتى أصبح مرضاً وتخلفاً.

فتصدى ماجد لهذا الزيف وحطم صنمهم الأول، بمقاله الشهير "الرياء المنمق" الذي عبر عن هجمة شرسة ضد خالد الرويشان، وضربة موجعة وفاضحة لأتباع الرويشان، ورغم استنفارهم وعويلهم فإنهم لم يستطيعوا إلا التأكيد والإثبات بأن ماجد كان المنتصر في هذه المعركة، وهي في حقيقة الأمر لم تكن ضد خالد الرويشان وحسب بقدر ما كانت ضد قطيع كامل ومتكامل.

هذا لا يعني بأن كل ما قاله ماجد صحيح، فقد رددت عنه بمقال في حينه وبينت النقاط التي كانت فيها مبالغات ومزايدات، والتي عبرت عن الحقائق، مع أني كنت بشكل عام معجباً بالمقال، لكن تظل الحقيقة والموضوعية والإنصاف هي القيم الأساسية التي لا ينبغي أن نفرط فيها مهما كانت الظروف، ومهما كانت مشاعر الحب والبغض الشخصية، فالحقائق فوق كل الاعتبارات.

صحيح بأن ماجد زايد، بعد هذه المعركة الشهيرة والمقال النوعي الذي أحدث ضجة كبيرة، لم يتناول بعدها إلا شخصيتن أو ثلاث، ولم يكن هنالك صدى وتفاعل كالأولى.

ومع أني دائما ضد المعارك الشخصية ومع القضايا الوطنية بحد ذاتها، لكن تناول الأشخاص التي أصبحت تعبر عن توجهات وتم صنع منها رمزيات للقضايا والمواقف، يكون تناولها مهما لهذه الأبعاد، لأنه تم صنع أصنام منها تمثل قضايا ومواقف، ومع هذا يظل للأمر حدود وخطوط حمراء بعدم الاقتراب من الخصوصيات الشخصية.

ففي ذات لقاء مع ماجد زايد، أحسست باضطرام ثورة داخله على النخبة وأنها ما زالت تتمخض ولم يخرج منها إلا القليل.

أخيراً.. مانع وماجد مختلفان كل الاختلاف من حيث ثقافتهما وتكوينهما الشخصي وطبيعة تجاربهما.

فمانع متمسك بأدبيات اليمين لكنه ثائر ويقول إنه يثور على الإصلاح من داخله وأنه الأكثر التزاما بأدبياته ومبادئه.

وماجد زايد المتشبع بثقافة وأدبيات اليسار، والأديب الكاتب الجديد الذي يعبر عن انصدامه بشخصيات نخبوية كان يجلها ويحترمها، فينتقد اليوم أنتجتها وتعاملها بعد أن تشبع بالتجربة وتألق بالإبداع.

كما أني الآخر مختلف تماماً عن تكوين الصديقين العزيزين وتجاربهما وطريقة تفكيرهما.

ولك أن تعتقد بأن ما يقوم به مانع ليس إلا عبثاً، وكذلك ما يكتبه وكتبه ماجد زايد، وأن مقالي هذا أيضاً ليس إلا العبث بالعبث ومحاولة لجعل من العبث شيئا مرتبا أو أنيقاً أو له قيمه، وقد تكون صادقاً إن اتهمتني بأني أشجعهم بتحفظ وأنتقدهم بطريقة غير مباشرة.

وأعتقد بأنه من الأفضل بأن تتخلى عن كل هذه الاتهمامات لنا الثلاثة، لعلك تصل إلى استنتاجات أفضل وأهم.

فقد تقتنع بأني أعبر وأبوح عن شيء مختلف وأقرأ مشاكل جيلي بكل ما لها وما عليها، فهذان الشخصان قد يكونا هما ما تبقى من نار الثورة كقطع جمر صغيرة ومتهالكة تحتضر وتفقد حرارتها حتى تكاد تموت، فتأتي رياح عابرة فتشعلها وتعيد لها بعض الوهج العابر كذلك.

خلاصة:

حقيقة مؤلمة أننا جيل خسرنا ونحن نناضل حقا وحقيقة، ونحاول بكل جد وصدق واندفاع ضد كل العبث، فما عاد هنالك من خشية وخوف حين نخسر ونحن نعبث، خصوصاً في الوقت الذي لم يعد هنالك أي قيمة لغير العبث، كردة فعل يائسة على العبث الذي كنا ضده فأصبح ضدنا وله القوة والسلطة... وفي الأخير نال من الجميع واحدا وحدا.. ولكننا نحن أول القتلى وآخر من يموت.