محمد عبدالرحمن

محمد عبدالرحمن

الشمال.. الراقص على حوافر المجنزرات وأزمة الانفصال بلا هوية

Wednesday 25 December 2019 الساعة 10:27 am

بعد أن ذوى التعريف القديم للانفصال المرتبط بالجغرافيا وبالسياسة التي كانت تخدم مصالح ومنافع المشيخة القبلية والدينية في الشمال، لا بد من إعادة تعريف المفردة بشكلها الجديد الذي اكتسبته بعد اجتياح وسقوط الدولة والوحدة السياسية التي كانت تمثلها صنعاء، وصياغة المفردة بدلالاتها الحديثة التي انتقلت من الطور السياسي إلى الطور التغريبي الانفصالي الذي يسيطر على الحياة المجتمعية والفردية في الشمال. 

 حالة الربط التي طالما استخدمتها المشيخة القبلية والدينية التي تسيطر على الحياة المجتمعية في الشمال بين الانفصال والجنوب هي حالة انتهت بعد أن وجد الجنوب مساراته التي من خلالها أعاد الصورة الجنوبية إلى الواقع الميداني بعد الاجتياح الثاني في العام 2015م، وأصبح من الواجب اليوم أن نبحث في حالة الأزمة الانفصالية التي يعيشها المجتمع في الشمال، والتي تهيئ لتغيرات وجدانية عميقة تصل بالمجتمع إلى هوية مغايرة للهويات الأولية التي تكونه ومن خلالها يتم التعريف به والتعرف عليه.

 إن دلائل الواقع الاجتماعي للناس في مناطق الشمال التي تسيطر عليها ميليشيا جماعة الحوثي الإرهابية توضح حالة العزلة التي تكتنف كل مفاصل الحياة، والوسائل التي تستخدمها هذه الميليشيا ضد المواطن قد صنعت حالات انفصالية عميقة بين قيمه ومعتقداته ودينه وبين الذات التي عجز عن تعريف نفسه من خلال تلك المنطلقات البدائية والطبيعية. 

 يعيش المواطنون في الشمال في حالة تغريبية مزعجة، فقد سعت الميليشيا الإرهابية إلى خلق الصورة الانفصالية في عقلية بعض الشباب وبين عوائلهم، حيث تغدقهم بالأفكار والمعتقدات الدينية الزائفة التي تبرر وتشبع نهمهم بأهمية وقداسة الالتحاق بالجماعة الحوثية وقائدها والتي تطغى على أفضلية وقداسة العائلة بمن فيهم الأب والام والولد، ولا طاعة للوالدين في حالة منعهم لأولادهم للالتحاق والانضمام إلى الميليشيا، والعصيان في هذه الحالة واجب شرعاً.

 النزعة الانفصالية بين المساجد والمصلين، حيث أصبحت دور العبادة خالية من روادها ومن العباد الذين كانوا يسكنونها ويملؤوها نفحات إيمانية تجسد مدى أهمية الدين والتدين في المجتمع المحافظ، وأصبحت المساجد منفصلة عن الناس بعد أن سيطر على منابرها أئمة يتبعون جماعة الحوثي، تؤدي وظيفة بث الكراهية والأحقاد وتعمّق من الجرح الذي أصاب الناس بعد سقوط صنعاء.

 سلب أبناء القبائل هويتهم القبلية والتي كانوا يعرفون أنفسهم من خلال الانتماء إليها، وأصبح اليوم "الرجل القبيلي" لا يستطيع تعريف نفسه من خلالها ويعتبر أن الانتماء لميليشيا الحوثي هو الذي يمنحه الصفة الإيمانية التي يرضي بها ربه، وأن ما كان في السابق هو انتماء الضلالة التي خدعتهم بها عادات وتقاليد أصبحت في فكره جاهلية إلا إذا كانت ستخدم الجماعة وقائدها، وهذا الانفصال الذي تكرسه هذه الجماعة في العقلية القبلية بعد أن قيدت من دور المشايخ وسلبتهم الدور التسلطي على أفراد القبيلة.

 لقد حققت هذه الجماعة الانفصال بين الناس وفكرة الدولة المدنية ووظيفتها وأهميتها، وجعلت من التفكير بوجود دولة فعلية هي حالة عدائية تستهدف التنظيم الحوثي المبني على منطلقات إيمانية إمامية، حيث تتجسد الدولة في صورة قائد الجماعة عبدالملك الحوثي ومن قبله أخوه حسين الحوثي، وأفراد العوائل الهاشمية هم من يديرون الشئون العامة للمجتمع ولا تليق بهم إلا المناصب والرتب العليا، وأي فكرة للدولة ووظيفتها تتكون خارج إطار الإمامة تستوجب القتال ضدها ووأدها.

 تعميق حالة الانفصال بين مكونات المجتمع الشمالي، أفرزت أساليب ووسائل جماعة الحوثي، صيغة عززت من التقسيم العنصري بين فئات المجتمع، حيث حصرت عوائل الهاشميين وعزلتهم عن بقية المكونات، وانفصالهم من اليمننة التي تحتضن الجميع ورفع راية الاستعلاء العنصري، وتفضيل أبناء مناطق معينة وخاصة أبناء صعدة الذين يدينون بالولاء لقائد الجماعة ومنحهم امتيازات كبيرة وضخهم بين السكان بهدف تعزيز السيطرة الأمنية ورفع التقارير عن تحركات الناس.

 تخلق جماعة الحوثي حالة انفصال بين المواطنين تحت سيطرته وبين الذين تمكنوا من الخروج إلى مناطق أخرى أو إلى بعض الدول، حيث يتم تصنيف كل من في الخارج أو في المناطق الأخرى بالمنافقين الكافرين المستوجبين للقتل والتشريد، مباحة أموالهم وذراريهم، وهكذا يتم فكفكة المجتمع وتجزئته بوسائل مختلفة وأفكار لم تجد من يردعها.

 أصبح الشمال اليوم يعيش حالات الانفصال الجماعية التي تفكك المجتمع سياسياً واقتصادياً وثقافياً وأمنياً، يظهر الشمال بصورة واحدة مرتبطة بالشخصانية والمناطقية، حيث يراد لكل يمني أن يتم تعريفه من خلال الفكر والمنطق الحوثي، الذي لا يرى في اليمن إلا جنة يملكها واليمنيين عبيداً في طاعته أو شياطين تمردوا عليه فاستحقوا لعنته وعذابه الدائم.

 الانفصال الحقيقي هو الذي يتجسد اليوم في الواقع الاجتماعي للناس، وهو أخطر أنواع الانفصال الذي يعاني منه الناس ويتجرعون ويلاته، وأما عن الجنوب وشماعة الانفصال فيه هو حديث يراد منه إخفاء حقيقة ما يجري في الشمال وكيف تسحقه النزعات الانفصالية التي يتم تكريسها في كل مفاصل حياته المادية والروحية وانتماءاته الأولية، لن ينفصل الشمال عن الجنوب وحسب، بل وعن ذاته أيضاً.