حكيم الجبلي

حكيم الجبلي

مفهوم "الحركة الوطنية" في اليمن المعاصر

Sunday 31 May 2020 الساعة 09:20 am

يعالج المقال بصورة موجزة السؤال التالي: 

ما الذي نتحدث عنه عندما نتحدث عن "الوطنية اليمنية" كعقيدة وكممارسة؟

قبل كل شيء، يجدر بنا أن ننوه إلى أن ثمة مكوناً أساسياً في الوطنية اليمنية التقليدية يتمثل في الاعتزاز والفخر بالحضارة اليمنية وأمجادها ومناقبها القديمة، والاعتزاز بالموروث الثقافي في الفن والشعر والعمارة والرقص والأزياء وتقاليد الحياة الاجتماعية.

لكن ما هي الوطنية اليمنية بالمعنى السياسي؟ 

في اليمن الحديث، تبلورت نسخة من الوطنية ترتكز على موقف مناهض لنظام الإمامة الزيدية في الشمال، وموقف مناهض للاستعمار البريطاني في الجنوب. 

ضمَّتْ هذه النسخة في برامجها وأدبياتها تطلعات نضالية نحو تحقيق الوحدة اليمنية، إلى جانب المناداة بتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية والاستقلال.

كان يعبِّر عن هذه النسخة من الوطنية تيار يمني عريض متعدد المشارب بات يشار إليه، في الوثائق والدراسات، تحت مسمى "الحركة الوطنية"، والتسمية مستعارة من أسماء الظواهر الاجتماعية التي كانت سائدة خلال النصف الأول من القرن الماضي في مناطق كثيرة من العالم، عندما بدأتْ بعض البلدان تتشكَّل سياسياً على منوال النظام الأوروبي "الوستفالي" كدول مستقلة ذات سيادة. 

وعليه، فالحركة الوطنية في اليمن المعاصر هي مفهوم واسع يغطي مسار النشاط المعارض (أولاً) في الشمال اليمني ضد نظام الإمام يحيى حميد الدين ثم ضد نجله أحمد ومن بعد هذا ضد نجله الإمام البدر الذي أطيح به ولم يكن قد مر على جلوسه على العرش أكثر من أسبوع، (ثانياً) النشاط المعارض في جنوب اليمن ضد الوجود البريطاني وحلفائه من السلاطين والأمراء المحليين.

أي أن الحركة الوطنية تأسَّستْ على دفعات متلاحقة، وتطوّرتْ بوصفها إطاراً معرفياً ونفسياً ينظم العمل السياسي والعسكري لإسقاط الأوضاع القائمة في الشمال والجنوب. 

مفهوم الحركة الوطنية اليمنية يمجِّد جميع الإسهامات في مواجهة السلطات باسم الحرية والتحديث والاستقلال الوطني. كل ما هو معارضة للإمامة أو للاستعمار البريطاني، قبل ثورتي 26 سبتمبر 1962 و14 أكتوبر 1963، كان يندرج ضمن مفهوم الحركة الوطنية. 

إلا أن المفهوم يستبعد نشاط الإمام يحيى ضد الحكم العثماني في المرتفعات الشمالية، من قائمة الأعمال المؤسسة للوطنية اليمنية الحديثة. لقد فشل الإمام يحيى فشلاً ذريعاً في تقديم نفسه زعيماً وطنياً في شمال اليمن وجنوبه. الطابع الديني لدعوته يفسِّر جزئياً هذا الفشل. وهذا ما ذهب إليه علي محمد الصائدي الذي كتب أن مقاتلة الإمام يحيى للأتراك "لم تكن باعتبارهم محتلين، بل لأنهم "سعوا في الأرض بالفساد وتركوا الشرائع وظلموا العباد"، وهذا التبرير الديني للمقاومة، كما ورد في منشور الجهاد الذي وجَّهه الإمام يحيى إلى القبائل بعد مبايعته بالإمامة، يرسم لنا حدود تفكير الإمام وفهمه لـ"الثورة" ضد الأتراك ويبعدنا عن النظر إليه كقائد لثورة وطنية ضد احتلال أجنبي"، (علي محمد الصائدي، "حركة المعارضة اليمنية في عهد الإمام يحيى حميد الدين").

في المغرب العربي، مثلاً، ارتبط تاريخ الحركة الوطنية الحديثة، التي قامت ضد الفرنسيين في الجنوب والأسبان في الشمال، بالملكية الشريفية كرمز للوحدة الوطنية. وكان السلطان محمد الخامس على علاقة وثيقة مع فصائل الحركة الوطنية المغربية في مطالباتها بالاستقلال الذي لم يتحقق إلا في منتصف خمسينات القرن الماضي.

الأدبيات التاريخية اليمنية تعلي من شأن القادة الوطنيين عندما يكونون معارضين يواجهون المخاطر في سبيل أهدافهم، من إعدامات ومنافٍ وسجون وملاحقات. أما عندما يصبحون حكاماً، فإن هذا يؤثر على وهجهم الوطني ويجعلهم عرضة للتشكيك والانتقاص. 

وهكذا ينكشف في الثقافة السياسية اليمنية الحديثة ما يشبه العرف الذي يقضي باعتبار الوطنية قرينة لكل فعل معارض، ونادراً ما تُعطى صفة الوطنية لرجل يخدم بلاده من موقع السلطة.

هل هذا العرف جيِّد أم سيّء؟

هو جيِّد وسيّء في نفس الوقت. جيِّد لأنه يشجع معنوياً على مناهضة ورفض طغيان وبطش السلطة، وسيّء لأنه يحتكر الوطنية، كقيمة، في مجال المعارضة والرفض، وهو ما يوفر الظروف الدائمة المعيقة لقيام دولة قوية مستقرة.

المؤكد أن مطالب ومكونات "الوطنية"، أي وطنية، تتغير من زمن إلى آخر. فهي تاريخية إذن، ليست مطلقة، أبدية. بمعنى أنها من المفاهيم المتطورة والمتغيرة في الزمن. وبالتالي فهي مفتوحة على عدد لا حصر له من المعاني باختلاف الزمان والمكان. 

فكرة الوطنية تُستخدَم كقيمة أخلاقية عليا أيضاً. لكن مدلولاتها في الواقع ومعاييرها ليست واحدة في كل الأوقات. معنى أن تكون وطنياً في الولايات المتحدة الأمريكية ليس مطابقاً لمعناه في المملكة العربية السعودية مثلاً. 

هناك أنماط كثيرة من الوطنيات على مستوى العالم، لكن المزعج هو أن توجد أنماط كثيرة منها على مستوى البلد الواحد مع غياب نقطة عليا مشتركة تلتقي فيها. بل قد تكون هذه الأنماط منخرطة في صراع عنيف، كما هو حاصل في اليمن، حيث تتصارع عدد من الوطنيات والشرعيات الناقصة والمتعارضة.