د. عبد العزيز المقالح

د. عبد العزيز المقالح

التوثيق.. ومؤثرات الزمن

Thursday 06 August 2020 الساعة 08:59 am

ضمّت المكتبة اليمنية عشرات بل مئات الكتب، التي ترصد التطورات التاريخية التي شهدها اليمن في الثلاثين عاماً الأخيرة، وفي بعض هذه الكتب ما يستحق الوقوف والتناول، لا سيما كِتاب الأستاذ الدكتور أحمد قائد الصايدي، المسمى (اليمن عشية الثورة).


 وقد أحسن الدكتور الصايدي بترجمة هذا الكتاب ليقدم لنا من خلاله صورةً للمشهد الذي رافق السنوات التي تَقدَّمت الثورة (26 سبتمبر 1962م) والتي تَلَتها. والكتاب المشار إليه يجمع عدداً من التقارير العلمية التي كتبها علماء وباحثون ألمان من مختلف التخصصات.

 

وما أحوَجَ اليمنيين اليوم إلى إعادة النظر في ما كتبه الآخرون عنهم، ليدركوا أين كانوا وأين صاروا، وهل كانت هنالك استجابة حقيقية لمؤثرات الزمن ودورها في تحريك الجامد والخامد من ملامح الحياة التي كانت سائدةً عشيَّةَ الثورة؟! 


تقول البعثة الألمانية الطبية التي أرسلتها حكومة جمهورية ألمانيا الديمقراطية في شهر أغسطس (1958م)، وعادت إلى ألمانيا بتقرير عن الوضع الصحي في اليمن:


يقع مطار الحديدة في مكان ملاصق للبحر الأحمر، وقد استقبلتنا فيه موجةٌ غير عادية من الحر والرطوبة، وما إن خطونا بضع خطوات على أرضه حتى التصقت ملابسنا بأجسامنا التصاقاً كاملاً، وقد واصلنا رحلتنا الجوية من الحديدة إلى تعز مقر الحكومة، ومعنا وزير التعليم اليمني وزوجته وبعض العسكر المسلحين، ووزير التعليم هذا هو من إخوة الإمام.


 وفي تعز نزلنا ضيوفاً على الملك في دار الضيافة الحكومي، وفي اليوم التالي تحدثنا حديثاً مطولاً مع وزير الصحة اليمني، الذي أبلغنا أثناء المحادثة أن الملك سوف يستقبلنا خلال الأيام القريبة القادمة. 


وفي مساء اليوم نفسه استُدعينا إلى القصر الملكي لندوّن كلمة في السجل الذهبي لليمن، وقد قمنا بزيارة للمستشفى الملكي وتحدثنا مع الأطباء الأوروبيين فيه، وقبل ظهر يوم العاشر من سبتمبر، اتجهنا بصحبة وكيل وزارة الخارجية (الشامي) إلى قصر الملك في (صالة) لنمثُل بين يدي الإمام، وفي أثناء وجودنا في القصر تحدثنا مطولاً مع ولي العهد، حول الوضع الصحي للإمام الذي قمنا بمعاينته، وقد مكثنا نحو ثلاث ساعات.


في الأيام التالية استضافنا يمنيون وأوروبيون.


 وفي الثالث عشر من سبتمبر توجهنا مع أحد أعضاء البعثة الأوروبية على متن سيارة (جيب) إلى مدينة صنعاء.

 وبعد أن تجاوزنا الكثير من الصعوبات التي صادفَتنا بسبب حالة الطريق، ممرات ضيقة، توجَّب علينا عبورُها، ومجاري سيول، ومناطق مستنقعات، وصلنا في مساء اليوم الأول لرحلتنا إلى مدينة إب مقر أحد نواب الإمام، وبتنا ليلتنا في دار الضيافة الحكومي، وفي اليوم التالي زرنا مبنى المستشفى كما زرنا المدينة والجامع ومنشأة تزويد المدينة بالماء، وبعد ظهر اليوم نفسه اتجهنا إلى المدينة الملكية القديمة (جِبْلة) التي كانت في القرن الثامن مقر الملكة اليمنية (أروى)، وفي عهد هذه الملكة رصفت تلك الطرقات إلى مدينة جبلة، شاهدنا بقاياها مراراً خلال رحلتنا، ورصفت تلك الطرقات بقطع الحجارة المتلاصقة لا سيما على الممرات الضيقة.


ولكي يكون التقرير شاملاً، كان عليه أن يضيف مزيداً من المعلومات عن القضايا العامة، صحيّاً وثقافيّاً وتاريخيّاً. 

يقول أحد هؤلاء الباحثين: وزير الصحة هو في الوقت نفسه وزير التجارة، ولا توجد وزارات في اليمن بالمفهوم الأوروبي، وبالتالي لا توجد إدارات للخدمات الصحية، وليس لدى الوزير إلمام بوضع المؤسسات الصحية، ولا توجد أيضاً تصورات حول كيفية تحسين مستوى الخدمات الصحية في المستقبل. 


ويفترض أن لا تكون عملية بناء وتحسين الخدمات الصحية أمراً صعباً، فالمؤسسات الصحية القائمة هي مؤسسات حكومية، وبغض النظر عن الأطباء المحليين الذين يصادفهم المرء أحياناً برفقة مديري المناطق التي يديرها نواب الإمام والعمال، لا توجد إدارات فرعية للخدمات الصحية في هذه المناطق، ولهذه الأسباب يصبح مفهوماً عدم إمكانية الحصول على معلومات وإحصاءات خاصة بالخدمات الصحية.


ويبدو أن وزير الصحة ليست تحت تصرفه ميزانيةٌ خاصة بوزارته، فإنفاق النقود للأغراض الصحية هي من صلاحيات الإمام ونوابه في الألوية، ويمكن من خلال المستوى الذي وصل إليه مستشفى الحديدة أن نتبين ما يستطيع تحقيقه نائب الإمام في هذا المجال، ونواب الإمام الآخرون أيضاً لديهم اهتمام بالخدمات الصحية، ولكن ينقصهم المال اللازم لبناء وتطوير المستشفيات والاستعانة بالمستشارين الفنيين والأطباء. 


وفي هذا الوضع، هناك محذور في أن ينفق المال القليل المتوفر في أغراض غير مفيدة، وفي اليمن يعتبر التدريب في أحد المستشفيات لمدة عامين كافياً ليحصل المتدرب على تصريح يخوله بالعمل (حكيماً) أي طبيباً، بعد أن يجتاز امتحاناً رسميّاً يجريه له مدير المستشفى وممثل الحكومة. 

ويعمل هؤلاء (الحكماء) أطباء عسكريين في مستشفيات صنعاء، وحجة، والبيضاء، وفي المدن والقرى. 


أمّا كيف يمارس هؤلاء عملهم، فقد تكونت لدينا صورة عن ذلك، من خلال بعض الحالات، ويصبح الأمر أكثر مدعاة للتساؤل حول هذه المسارات الطبية، عندما يتجرأ أحد هؤلاء ويجري عملية جراحية، أو عندما ينشئ أحدهم علاقة بأحد التجار الذين يبيعون الأدوية، فتثمر شراكتهما ازدهاراً في عملهما معاً، ويؤدي ترويجها اللامسؤول للمضادات الحيوية إلى نتائج خطيرة.


ويبذل الأطباء السوفييت في صنعاء جهودهم لإعداد ممرضين من الشباب الذكور، من الناحيتين، النظرية والعملية. ولتسهيل عملية الإعداد هذه، يُستعان بمترجم البعثة الطبية، والمترجم يكون عادةً من طلاب الجامعات السوفييتية، الذين يستفيدون من إقامتهم في اليمن لتحسين مستواهم في اللغة العربية، وفي بعض الأحيان يصادف المرء أفراداً من المساعدين الذين تدربوا في مستشفيات سوريا أو في مستشفيات بلدان عربية أخرى، وما عدا هؤلاء، فإن الطبيب الأجنبي في اليمن يدرب مساعديه بنفسه. 

ولأن مرتبات المساعدين ضئيلة جدّاً، ولا تدفع لهم في أوقات منتظمة، فإنهم غالباً ما يغيرون أماكن عملهم. 

وفي مستشفى تعز، تعمل ممرضات حبشيات في القسم الذي يعالج فيه مرضى البلاط الملكي، وتعتبر وظيفة التمريض حتى الآن وظيفةً رجالية، ولأسباب دينية لا يسمح للمرأة اليمنية بالعمل في الخدمات الصحية.


ويسيطر كبار التجار على تجارة الأدوية في اليمن، وتوفر المراكز الحكومية حاجة المستشفيات من الأدوية، كما هو الحال في الصيدلية الحكومية بصنعاء، التي هي بالأحرى مجرد مخزن للأدوية، ويمارس صغار التجار بيع الأدوية في عموم البلاد.


تبقت إشارة أخيرة إلى هذه التقارير العلمية، التي تناولت أوضاع اليمن الصحية والاقتصادية قبل الثورة، ولم تترك في تتبعها حالة من الحالات الجديرة بالاهتمام والانتباه، وإذا كانت الأمور قد تغيرت بعض الشيء، فإن العودة إلى مثل تلك التقارير والتأمل في محتوياتها، يرفع من مستوى الوعي، ويجعلنا نتلمس وسائل الخروج مما تبقى في واقعنا من معاناة أثقلت كاهل اليمن وجعلته عرضة للتراجع والجمود، مقارنة ببقية الأقطار والشعوب، تلك التي نجحت في المقاومة وحققت تطوراً مناسباً، فما علينا إلَّا أن نواصل الخطوات ونتحدى الصعاب مهما كانت ثقيلة وعصية على الحلول.


* نقلاً عن مجلة الشارقة الثقافية