د. صادق القاضي

د. صادق القاضي

تابعنى على

أدلجة التعليم في اليمن: تاريخ.. إجراءات.. آثار وشجون!

Friday 16 July 2021 الساعة 06:35 pm

ليست مجرد مصادفة أن يستهل الشاعر والأديب والمؤرخ اليمني الكبير الراحل "عبد الله البردّوني" مذكراته المهمة "تبرج الخفايا ولفيف من الذكريات"* بالحديث عن مشكلة قديمة حدثت بينه وبين من أصبح لاحقاً رجل الدين الشهير الشيخ "عبد المجيد الزنداني". في أروقة وزارة "المعارف" "التربية والتعليم" في مطلع العهد الجمهوري.

لم تكن المشكلة شخصية ولا شكلية ولا عابرة. الرجلان -كما يمكن التعامل معهما هنا- رمزان لقوى ومشاريع وأيديولوجيات متعارضة تتدافع خلفهما، في إطار الصراع الجدلي القديم الجديد بين التيار الوطني والتيار الديني في اليمن، حول تحديد نوعية المرجعيات والأهداف التي ينبغي أن تحكم توجهات ووظائف الدولة والنظام السياسي.

كانت اليمن حينها قد شرعت للتو بوضع الملامح الأولى لشخصيتها العصرية الخاصة المغايرة، وكان كلٌ من الطرفين يحاول تشكيل هذه الملامح حسب وجهته وتوجهه، ويراهن على "التعليم"، باعتباره مصنعاً للأجيال، والأداة الأكثر فاعلية للتأثير والتغيير، والخيار الاستراتيجي الأكثر ضمانة للسيطرة على المستقبل.

وهو كذلك. التعليم هو الأداة والوسيلة المثلى لأيّ تغيير حقيقي جذري منشود، بموجب علاقة حتمية حاسمة بين السياسة التعليمية لأي بلد، وبين ظروفه العامة، وإن أيّ حراك مهم في الجانب التعليمي، لا بد أن يجسد نفسه -إيجاباً أو سلباً- في المدى القريب أو البعيد. على استقرار الدولة، وأمن ورفاهية الشعب، ونوعية الأوضاع العامة.

وهكذا. بادر الشاعران الأستاذان: البردوني ومحمد الشرفي. حينها بتأسيس أول إدارة للمناهج التعليمية في "وزارة المعارف" إثر ثورة 26 سبتمبر 1962، وفي المقابل قام الطرف الآخر باستحداث "إدارة التربية الدينية"، ووضعها بيد الشيخ "عبد المجيد الزنداني".

لم تكن الكتب الدراسية والمناهج التعليمية في ذلك الحين قد تبلورت بعد بشكل يمني خالص. وحتى يتسنى هذا، وكإجراء مؤقت. قرر البردوني والشرفي اعتماد المناهج المدرسية المصرية للمدارس في اليمن. بموجب رؤية وطنية تنحو باليمن باتجاه الدول العربية الأكثر تقدماً، وتتكئ على تجاربها وخبراتها ورصيدها في التنمية والتحديث.

لكن. كان لا بد لهذا القرار التعليمي المدني الذي يتعارض بالضرورة مع رؤية التيار الديني وتوجهه، أن يواجَه بمعارضة من الشيخ الزنداني الذي لم يعترض على القرار فحسب، بل قام بتوقيف البردوني والشرفي وإدارتهما عن العمل، لتصل المشكلة في النهاية إلى وزير المعارف الأستاذ الكبير "محمد محمود الزبيري".!

كان الزبيري، كما يليق بشخصيته الأدبية والسياسية المخضرمة، أوسع أفقا وأكثر حكمة، زاره البردوني في منزله، وقدم إليه شكواه، وسرعان ما تفهم دوافعه ووافق على قراره، ربما لأنه لا يوجد حل آخر غير قيام الزنداني وأمثاله بوضع الكتب المدرسية. بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير.!

لكن القصة لم تنتهِ عند هذه النقطة، وما له مغزى في هذا المقام، أن الزبيري انتهز حضور البردوني لاستشارته بشأن مشكلة قيام بعضهم باستقطاع أراضٍ تابعة لـ"مقبرة خزيمة"، كما انتهز مشكلة مقبرة خزيمة للوصول إلى أغراض أخرى غير ذات صلة.. وتتعلق بالإعلام وعمل المرأة.!

من وجهة نظر الزبيري كان الحل لمشكلة أراضي "مقبرة خزيمة" هو تشكيل مجلس وجاهات باسم "أعيان صنعاء"، والمطلوب من هذا المجلس. كما قال للبردوني: "تحقيق ثلاثة أمور:

- الأول: تأكيد حرمة المقابر. 

- الثاني: عدم توظيف المرأة.!

- الثالث: قيام الإذاعة بمنع المذيعات، وعدم مقابلة الوافدات من مغنيات كوكبان وعدن وتعز.!

السؤال الذي يتبادر مباشرةً هنا: ما علاقة الموظفات والمذيعات والمغنيات اليمنيات.. بمشكلة نهب أراضي "مقبرة خزيمة".؟!

لا شيء.. ولا تفسير للمسألة إلا باعتبارها مساومةً بين الرجلين أو الطرفين: اعتماد المنهج المصري في المدارس اليمنية، مقابل منع توظيف المرأة، وتوقيف المذيعات، ومنع بث أغاني الفنانات من الإذاعة.!

كما يمكن أن نتوقع. اعترض البردوني على البند الثاني بحجة أن المستشفيات بحاجة إلى طبيبات لمعالجة النساء، ويفترض أنه -وإن لم يذكر ذلك- اعترض على البند الثالث كونه يهمه مباشرة باعتباره يعمل أيضاً في إذاعة صنعاء، وله علاقة بسياستها الإعلامية!.

أياً كان الأمر. فقد كان الزبيري إسلاموياً. من النوع الأكثر رويةً واستبصارا، وفي مقابل "الزنداني" الشاب العشريني الذي كان يحاول أدلجة التعليم بسذاجة وعجرفة، كان هو من موقعه في زعامة القوى التقليدية، وعلى رأس وزارة المعارف. يحاول أسلمة المجتمع والدولة والنظام بالوسائل الدبلوماسية الناعمة.

بدأت اللعبة. إذن. في تلك المرحلة الجمهورية المبكرة، وتصاعدت لاحقاً، على مراحل، وانخرطت فيها أطراف أخرى، وكما بتنا نعرف اليوم جيداً، فإن "التجربة التعليمية في اليمن"، هي أحدى أكثر النماذج الدولية وضوحاً في التاكيد المأساوي على حقيقة:

أن أدلجة التعليم، سواءٌ التعليم العام، أو إنشاء مؤسسات تربوية وتعليمية أيديولوجية موازية.. عملية بالغة الخطورة على الواقع التعليمي. وبالتالي على مستقبل مختلف جوانب الحياة. الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية والأمنية والتنموية.. في أي بلد في العالم.

• أطراف وسياقات:

ولتصور القضية بشكل أكثر رحابة، فإن الظاهرة لم تنحصر بالتنظيمات الدينية، فقد انساقت الأنظمة نفسها في أحايين كثيرة، وبدرجات متفاوتة، في اللعب بالنار بهذا الشكل الخطر، وتوظيف التعليم في صراعاتها السياسية الداخلية والخارجية. خاصةً خلال "الحرب الباردة".

كان التحشيد والاستقطاب الديني الجهادي هو طابع وسياسة المرحلة، وتبعاً لقوى كبرى على مستوى المنطقة والعالم، اتخذت كثير من الأنظمة الإسلامية والعربية. من الإسلام سلاحاً إيديولوجيا لمقاومة المد الشيوعي، وعليه فقد تبنت سياسات تعليمية موجهة، على مستوى الإدارة والأهداف والمضامين التعليمية. 

في الجنوب اليمني. سابقاً، وتبعاً للمعسكر الشرقي، كان يحدث المثل. لكن بالاتجاه المعاكس، وقد يكون من المهم التذكير بـ"معاهد باذيب" ومدارس "النجمة الحمراء" التي كانت تابعة للحزب الاشتراكي اليمني، فبالرغم من كونها تقدمية شكلياً، ولم ترتبط بقضايا وشبهات الإرهاب. إلا أنها كانت تخدم إيديولوجية محددة. "الشيوعية".

لكن تلك التجربة اليسارية تصبح مجرد مزحة عابرة مقارنةً -من حيث الكم والكيف والآثار المترتبة عنها- بالتجارب المزامنة واللاحقة لها لدى التيارات العقائدية من فصائل الإسلام السياسي، في شمال اليمن سابقاً، ثمّ على امتداد اليمن الموحد.

مع انقلاب 5 نوفمبر 1967، ثم المعاهدة الشهيرة بين زعماء هذا الانقلاب وبين الملكيين عام 1970. كانت موازين القوى في الشمال، قد انقلبت لصالح القوى التقليدية، ومن ثمّ تمّ تدشين مزاوجة رسمية بين السلطة السياسية والتيار الديني، على حساب وجود وتوجهات ونفوذ التيارات الوطنية، وعلى حساب القيم الجوهرية للنظام الجمهوري نفسه.

الشيخ الزنداني الذي فشل أمام البردوني. قبل ستة أعوام. في فرض رؤيته للمنهج المدرسي. خلا له الجو عام 1968. فقام بتأسيس"الجمعية العلمية اليمنية". مهمتها تأليف المناهج التعليمية للمدارس العامة، والأهم هنا أن هذه الجمعية كان لها سابقة في تأسيس "المعاهد العلمية". بالمساهمة في إنشاء "المعهد العلمي" بمسور خولان عام 1972م.

• المعاهد العلمية:

في الفترة نفسها تقريبا، تم إنشاء معاهد علمية أخرى، قليلة. هنا وهناك. في تعز تمّ تخصيص جزءٍ من مبنى "مدرسة الثورة" الثانوية ليكون معهداً علمياً كانت أولى أنشطة طلابه اتهام زملائهم في الجزء الآخر من المبني بتقطيع المصاحف الشريفة والدوس عليها، في قضية سياسية ورأي عام شهيرة تصاعدت إلى أعلى المستويات.!

التكفير والتحريض.. هما أول ما يمكن توقعه من مخرجات عملية احتكاك جماعات الإسلام السياسي بالتعليم. العنف والسلاح والملشنة تحصيل حاصل. بعض الجماعات الإرهابية تحتفظ بهذا التماس الخطر حتى في مسمياتها: "طالبان= طلاب المدارس الدينية". "بوكو حرام= التعليم الغربي حرام"، وفيما يتعلق بـ"المعاهد العلمية" فقد كانت تتبنى:

 عقيدة طائفية سنية وهابية إخوانية متطرفة معادية لكل الأفكار القومية واليسارية فضلا عن عدائها التكفيري الصريح للطوائف الأخرى في اليمن كالصوفية والزيدية والإسماعيلية.. مع قطيعة حادة حتى مع المذاهب السنية التقليدية كالشافعية، والتدين الروحي التقليدي.

كانت بؤرا تنظيمية، ومراكز سياسية وعسكرية أكثر منها مراكز تربوية تعليمية، ولأنها كذلك. كانت سيئة السمعة، ولاستقطاب الطلاب إليها، كان يتم منحهم -دونا عن طلاب المدارس العامة- امتيازات مغرية: تغذية ومبالغ شهرية، وتسكينهم في أقسام داخلية، والأهم هو تأمين الوظيفة السهلة السريعة المضمونة لخريجيها في عمر مبكر بمؤهلات توازي الثانوية العامة.!

مع انقلاب 13یونیو 1974، انقلبت موازين القوى مجددا، لفترة قصيرة نسبيا، انتهت بانقلاب معاكس، وبعيداً عن الحيثيات التفصيلية، فالمفارقة أن النقلة النوعية للمعاهد العلمية. من حيث المأسسة والصفة الرسمية، لم تتم في عهد القاضي الإرياني الذي كان منسجما مع القوى التقليدية، والذي بدأت هذه المعاهد في عهده، بل تمت في عهد خلفه الرئيس اليساري طيب الذكر "إبراهيم الحمدي" الذي يصنفه الإخوان في رأس قائمة أعدائهم التي تشمل الجميع.!

كان القلق والتربص هما سيدا الموقف بين القوى داخل الشمال، وبينه وبين الجنوب الاشتراكي، وعلى غرار تجربة الرئيس السادات في مصر، بمحاربة الشيوعيين بالإخوان، وأسلمة أشياء كثيرة لصالحهم، وتمكينهم من الأوساط التعليمية.. قام الرئيس الحمدي،  بإصدار أخطر ثلاثة قرارات في تاريخ التعليم الحديث في اليمن، وذلك بإنشاء:

ــ مكتب التوجيه والإرشاد، أوكل رئاسته للأستاذ عبدالمجيد الزنداني، ومنحه درجة وزير.!

ــ الهيئة العامة التربوية، وأوكل رئاستها للقاضي أحمد عبدالرحمن المحبوب. المقرب من الإخوان.

ــ الهيئة العامة للمعاهد العلمية، وأوكل رئاستها للقاضي يحيى لطف الفسيل، وحمود هاشم الذارحي.!

 لم يكن الإخوان يحلمون حتى بمثل هذا "الفتح المبين" على الصعيد التعليمي.بمنحهم. دفعة واحدة. هذه القواعد التنظيمية والحواضن الأيديولوجية، وبشكل خاص "الهيئة العامة للمعاهد العلمية". بإدارات مستقلة بعيدا عن رقابة وزارة التربية والتعليم، وبميزانيات ضخمة مستقلة لا تخضع لرقابة وزارة المالیة، والأجهزة المالية الأخرى.

بيد أن الطفرة الكمية الهائلة لهذه المعاهد التي لم تكن تتجاوز ربما الـ20 معهدا. جاءت لاحقاً في ظل ظروف عصيبة مواتية مع بداية ثمانينيات القرن الماضي، ليصل عددها إلی 500 معهد عام 1982. ثم إلی 1200 معهد. تضم قرابة 600,000 طالب. قبيل إلغائها عام 2001م.

يحسب هذا على الرئيس السابق "صالح" الذي يحسب له قيامه منذ 1994. بعدة محاولات لإلغاء هذه المعاهد المؤدلجة ودمجها في التعليم العام، المحاولات التي كانت تصطدم في كل مرة بالنفوذ الطاغي للإخوان في الدولة والقبيلة والمجتمع، وصولاً إلى نجاحها عبر البرلمان وقانون "توحيد التعليم".

في تلك الجلسة البرلمانية الشهيرة انسحبت كتلة الإخوان. صرّح أحد أعضائها:

وقت الشدة. لا نجد إلا القوات المسلحة والمعاهد العلمية.!

كان يومها يساوم الدولة، والرئيس صالح، ويذكّرهما بفائدة هذه المعاهد. "وقت الشدة"، كميليشيات جهادية، رديفة للقوات المسلحة، وهو الدور الذي درجت عليه مبكراً، ولعبته بقوة خلال حروب المناطق الوسطى، وبالذات خلال حرب صيف 1994م.

باختصار: كان الخصم الشيوعي. سواءٌ كنظام سياسي في الجنوب، أو كأيديولوجية وكيان سياسي معارض في الشمال، هو السبب الأكثر جوهرية لإنشاء المعاهد العلمية، وتمكين جماعة الإخوان في اليمن، وبمجرد زوال هذا الخصم، كدولة بتحقيق الوحدة 1990، وككيان سياسي بحرب صيف 1994م. اصبحت هذه المعاهد عبئا على الدولة ومن مخلفات الحرب.

من حينه بدأت المحاولات الجادة لإلغائها، وبالكاد نجحت، لكن في وقت متأخر للغاية بالنسبة لإصلاح الآثار العميقة والشاملة التي ترتبت عن هذه المعاهد والايديولوجية الشمولية التي كرستها خلال حوالي ثلاثة عقود سابقة.

• معاهد المعلمين:

لـ"معاهد المعلمين"، قصة أخرى، وإن كانت بنتائج ووظائف مماثلة، وكشهادة شخصية من واقع دراستي في هذه المعاهد نظام الثلاث سنوات، ورؤيتي التربوية والتعليمية اليوم. أرى أن هذه المعاهد تحسب للرئيس السابق وعليه أيضاً باعتبارين مختلفين:

الأول: هدف هذه المعاهد ونوعية المناهج التعليمية والتربوية المقررة فيها.

والثاني: نوعية الجهة التي تسلمت إدارتها، ونوعية المضمون المعرفي الذي يتم تحصيله فعلاً.

على الجانب الأول: كان الهدف من إنشاء هذه المعاهد يمننة التدريس، والاستغناء عن المدرسين الأجانب، وتوفير العملة الصعبة، من خلال إعداد مدرسين محترفين أكْفاء للمدارس الابتدائية عبر استراتيجية تربوية وطنية منهجية قامت عليها جهات احترافية.

لهذا الغرض، كانت مقررات هذه المعاهد هي نفس مقررات المدارس الثانوية العامة تقريبا، مع تقليص معقول لحجم المقررات العلمية الصرفة كالفيزياء والكيمياء، وإضافة مواد تربوية ومواد فنية. كما تم تزويدها بالمعامل والأدوات الموسيقية.. وإجمالاً: 

كانت معاهد  المعلمين. من حيث المقررات والمناهج والأدوات والإمكانات التعليمية.. أفضل في بعض الجوانب من المدارس الثانوية العامة، خاصة من حيث تنوع المادة التعليمية، وتنمية الجوانب الإبداعية، والاهتمامات الفنية والجمالية.

لكن -على الجانب العملي- الوضع مختلف. تم تسليم إدارة هذه المعاهد، رغم كونها تابعة إدارياً لوزارة التربية والتعليم. لجماعة الإخوان التي قامت بتجميد تدريس المواد الفنية، وتحديد درجات الطالب فيها بناء على رغبة الإدارة حسب مدى تمثله لعقيدة الولاء والبراء الأيديولوجي، ومدى تفانيه في النشاط السياسي.

كما تم تقليص بعض المقررات العلمية واللغوية كاللغة الإنجليزية، وتهميش مسألة التحصيل التعليمي حتى للمواد الدينية، لصالح تكثيف الأنشطة الدعوية والاستقطاب السياسي، والتربية الأيديولوجية..

هذه المعاهد دليل إضافي على أن أدلجة التعليم، لا ترتبط بالضرورة بالكتاب المدرسي، بقدر ارتباطها بالمدرس والإدارة والأنشطة المدرسية، والقائمين على العملية التعليمية برمتها. وكانت جماعة الإخوان مسيطرة على هذه الجوانب، حتى في المدارس العامة.

• مؤسسات واستطالات تعليمية أخرى:

بشكل عام. كانت هذه الجماعة تدير كليا أو جزئيا:

- "المعاهد العلمية".

- "معاهد المعلمين".

بجانب استحواذها على معظم:

- "مدارس تحفيظ القرآن الكريم".

ثم. منذ عقود. مدت سيطرتها شبه الكاملة على قطاع:

- التعليم الأهلي والخاص: مدارس وجامعات.

• خطوات ومظاهر الأدلجة التعليمية:

كظاهرة تراكمية، مرت "أدلجة التعليم في اليمن"، عبر خطوات، وتجسدت تدريجيا من خلال إجراءات ومظاهر منها:

- الفصل بين الجنسين.

- فرض الحجاب على الطالبات.

- أدلجة مناهج التربية الإسلامية. من خلال انتقاء النصوص وتوجيه فهمها، لصالح رؤية فئوية طائفية مغلقة متزمتة، على حساب الخطاب الديني المنفتح وتوجهه العام.

- مضاعفة المقررات والمواد الدينية المؤدلجة، وتحويل مادة التربية الإسلامية إلى مادتين بدلاً من واحدة.

- أسلمة المقررات والمناهج اللغوية والأدبية، من خلال الانتقاء والتأويل أيضاً. بدلا من مسرحية لشكسبير، أو رواية لنجيب محفوظ، يتم تقرير قصة "واإسلاماه" لباكثير، ومن كل قصائد البردوني يتم اختيار قصيدة قديمة لها مناسبة دينية.. وهكذا.!

- إفراغ المقررات الدراسية من كل ما يتعلق بتنمية ملكة التفكير والمقارنة والحس النقدي والبعد الوطني والقومي والإنساني.

- تهميش وتغييب المقررات التعليمية المتعلقة بتنمية وعي الشخص بنفسه وبالآخرين وبوطنه والعالم. (علم نفس. علم اجتماع. أديان مقارن. تاريخ أديان).

- إلغاء المواد والمقررات والأنشطة المدرسية المعنية بتنمية الثقافة والموهبة الفنية والحس الجمالي والمواهب الإبداعية (موسيقى. رسم. مسرح. تربية فنية..).

- استبعاد مادة التربية الوطنية.

- تقرير مواد وكتب أيديولوجية: "افيون الشعوب" للعقاد. والتوحيد للزنداني.

- أسلمة وأدلجة بعض الأنشطة المتعلقة بالفنون والآداب: "الغناء والمسرح".

- أدلجة الأنشطة المدرسية المتعلقة بتنمية القدرات الجسدية والعقلية والاجتماعية (رياضة. كشافة. صحة. بيئة. رحلات).

- إلغاء الأدوات والملحقات المدرسية الضرورية لاكتساب الخبرات العملية (معامل. ملاعب. قاعات. أدوات فنية).

• أدلجة السياسة التعليمية:

بطبيعة الحال. تمت هذه الإجراءات والتوجهات الإيديولوجية التعليمية في ظل سياسة تعليمية شاملة، كانت قد تمت أدلجتها مسبقاً، من خلال سيطرة التيار الديني على مناطق مهمة حساسة في الدولة ووزاة التربية والتعليم، ومشاركته بقوة وبشكل رئيس في إدارة وصياغة أهداف ومقررات التعليم العام، ورسم السياسة التعليمية في اليمن.

وتمثلت الأدلجة على هذا الصعيد بقلب أولويات السياسة التعليمية رأسها على عقب، حيث نجد هدف "تنمية ملكات التفكير والذكاء والشخصية النقدية" للطالب في موقع متأخر من قائمة الأهداف التربوية المخصصة صدارتها لتربية الفرد المطيع الملتزم المحافظ الذي يقدس التقاليد ويحترم السلطات.!

• صراع الجماعات المؤدلجة:

تزخر التجربة التعليمية في اليمن بشواهد من كل نوع، على خطورة هذه العملية متعددة الاطراف، وبالذات في بلد متعدد الطوائف والأيديولوجيات والتيارات الطائفية، التي لكل منها أجندة سياسية تبدأ من المدرسة، وتنتهي -نظريا على الأقل- بالسلطة.

جماعة الإخوان، وإن كانت الأقدم والأكثر حضوراً وتأثيرا وعبثاً في هذا المقام، إلا أن الساحة لم تخلُ من منافسين، كالجماعات السلفية بمراكزها التعليمية، منها "مركز دماج" في صعدة، ومركز محمد الإمام في معبر، وغيرهما. بعض هذه المراكز تستقطب طلابا من داخل اليمن وخارجها، وحتى من خارج الوطن العربي.!

لهذه الجماعات السلفية التي تم تحجيمها أو إزاحتها من شمال الشمال، حضور متصاعد في الجنوب منذ سنوات، بمدارسها الدينية، وهو أمرٌ له ما بعده، هذه الجماعات كمختلف فصائل الإسلام السياسي، ليست مجرد أدوات سياسية أو عسكرية يمكن التخلص منها في نهاية اللعبة.!

"الجماعة الحوثية"، هي الوجه الشيعي لجماعات الإسلام السياسي السني هذه، ومثلها بدأت من خلال "مدارس الشباب المؤمن"، وبالمقارنة. دخلت اللعبة في وقت متأخر. عام 1992،  ووصلت إلى السلطة عام 2015م. ما يجعلها بعد طالبان من أسرع الجماعات الدينية وصولا إلى السلطة.!

السبب المهم لهذا النجاح البراجماتي. في الحالتين: طالبان. الحوثي. أن كلاً منهما دخلت إلى ميدان كان قد أصبح جاهزا سلفاً، فبدأت من حيث انتهى آخرون أسلموا لها الحياة، وروّضوا لها الثقافة، وأضعفوا لها الدولة، ومهدوا لها السبيل الى السلطة والمجتمع، فاستنت بسنتهم، وتمددت على حسابهم. وفي جغرافيتهم التقليدية.

الآخرون هنا: هم المجاهدون الأفغان بالنسبة لطالبان، والإخوان بالنسبة للجماعة الحوثية، من حيث أن كلاً منهما خلف وراءه رصيدا ضخما من التجارب والتقاليد والوسائل والأساليب التربوية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والدعوية المجربة، التي امتطاها الخلف، وربما تجاوز بها السلف.

• الأدلجة والهوية:

من بين الأشياء الجوهرية المشتركة الكثيرة لهذه الجماعات الدينية المتعارضة، بأيديديوجياتها الشمولية المتعددة، أن لكلّ منها هوية فئوية، تعمل من خلال أدلجة التعليم على ترسيخها على حساب الهويات الأصلية الأصيلة، في اليمن، ضمن قطيعة حادة مع: 

- الهوية الحضارية: كانتماء لتاريخ حضاري طويل عمره آلاف السنين، لصالح هوية طارئة ضيقة تعادي التراث وتعتدي على الآثار، ولا ترى فيما قبل الإسلام، ولا في تقاليد المجتمع وعاداته غير الكفر والوثنية.

- الهوية الوطنية: كانتماء لوطن كبير متعدد الشرائح والطوائف المتعايشة في ظل مبدأ المواطنة.. لصالح هوية فئوية مغلقة.

- الهوية القومية: كانتماء ثقافي كبير، تم تصنيفه باعتبارها كفرا وانتماء يتعارض مع الإسلام من وجهة فصائل الإسلام السياسي الجديد.

-  الهوية الإسلامية: كانتماء لدين حنيف حضاري منفتح متسامح لصالح هويات فئوية أيديولوجية تكفيرية جهادية. انتجت الجماعات الإرهابية.

- الهوية الإنسانية: باعتبارنا في اليمن جزءا من العالم، ويجب التعاون مع جميع البشر، على ظهر هذا الكوكب الذي نتشارك فيه، لجعل الحياة أفضل، وأكثر أمنا وسلاما ورفاهية.

• حصاد الأدلجة:

من الطبيعي لسياسة ومدخلات تعليمية مفبركة وموجهة ومؤدلجة، بهذه الدرجة والنوع، أن تنتج مخرجات كارثية متلائمة ومتعارضة، تبعاً للأيديولوجيات الكهنوتية المتماثلة والمتعارضة، والجماعات الدينية المتعددة التي عملت، مجتمعة ومتفرقة، وبدرجات متفاوتة، على نخر العملية التعليمية، وتحريف وتجريف وتشظية الوعي والوجدان الجمعي، وضرب الوحدة الوطنية، وتمزيق النسيج الاجتماعي، وقلب الأولويات الوطنية والدينية.

وبعبارة أ.د حمود العودي: فـ “إن تجزئة العملیة التعلیمیة بین أطراف سیاسیة ودینیة مختلفة، أدت إلی تجزئة الوجدان والعقل الیمني للجیل الموجود، وتوزیعهم إلی جزر ومستوطنات عقائدية ومذهبیة وطائفیة وسیاسیة”.!

من هنا تتأكد الخطورة المريعة لأدلجة التعليم في السياق العام، وعلى هذا الأساس، يمكن إدانة الأخطاء والخطايا التعليمية القاتلة في الماضي، كاختلالات بنيوية كانت وظلت كامنة وراء وخلف وفي صميم جميع الإشكالات والصراعات والأزمات والاضطرابات والحروب التي عانتها اليمن خلال المراحل السابقة، وصولاً إلى صناعة المشهد اليمني الراهن، بكل تشظياته وتعقيداته وتجلياته وأبعاده الكارثية.

• أخيراً: هل هناك أمل.؟!

نعم. هناك دائماً أمل. وكما في أي دولة في العالم، التعليم هو الملاذ الأول والقلعة الأخيرة لمواجهة الواقع، وتغييره، إذ لا يمكن الخروج من هذه الحالة العصيبة الراهنة إلا من خلال إصلاح البنى التربوية والتعويل على المؤسسات والكوادر والقوى التعليمية في تجاوزها. سعياً إلى عملية التنمية بمعانيها وأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. العميقة والشاملة. 

* هامش: 

نشر البردوني هذه المذكرات خلال حياته على شكل مقالات في صحيفة 26 سبتمبر، ولم تطبع في كتاب مستقل إلى أن قام الشاعران: عبد المجيد التركي ومحمد القعود.. مؤخراً بجمعها ونشرها في كتاب كبير بعنوان "تبرج الخفايا ولفيف من الذكريات" صادر عن دار "وسم. للنشر والتوزيع 2021م.