ما بين مدينتي "المخا" اليمنية و"ملاكا" الماليزية.. الإسلام الحقيقي وانتهازية الدين!

السياسية - Sunday 06 October 2019 الساعة 10:45 am
كوالالمبور، نيوزيمن، فاروق ثابت:

148 كيلو متراً إلى الجنوب الغربي من العاصمة الماليزية كوالالمبور ستكون هناك على موعد مع التاريخ.

ماليزيا هنا ليست مجرد تلك الأبراج العملاقة والمباني الزجاجية والحداثة التي قد يعتقدها الكثير مثل بعض الدول التي لا ترتبط بالماضي.

ففي كل شبر من مدينة ملاكا حكاية، وفيها عبق التاريخ والحضارات، الأمم تنبعث معالمها من كل زواية من مبانيها وأزقتها الموغلة في القدم.

الحملات والأمم والاستعمار الذي تعرضت له هذه المدينة ذكرتني بالمدينة اليمنية العظيمة المخا التي حملت نفس سمات ملاكا مع فارق أن الأخيرة نالت اهتماما كبيرا من قبل الدولة والحكومة الماليزية، فيما أهمل المخا الذي عرف عالميا بميناء موكا إبان فترات الإمامة والاستعمار وفي العهد الجمهوري أيضا، وقد تعرض للعديد من الهجمات الاستعمارية على مدى التاريخ مثله مثل ميناء ملاكا الماليزي الذي اشتهر بتصدير التوابل وتعرض لحملات استعمار الجيوش الهندية والهولندية والانجليزية واليابانية والبرتغالية على مدى التاريخ.

في الساحة الحمراء وسط ملاكا تكاد لا تدري إلى أين تذهب من كثرة المتاحف والآثار الموجودة منذ العهد الإسلامي وما قبله.

عدسة "نيوزيمن" احتارت من أين تبدأ ومن أين تنتهي، فكل شيء جميل في هذه المدينة المتخمة بعبق التاريخ ونسائمه المنكهة بروائح اليمن واليمنيين.

المدينة المكتظة بالمساجد والكنائس والمعابد المتجاورة بالسلام والحب والتعايش بين أفراد الشعب الماليزي المتعدد الأعراق والأجناس.

ملاكا المنارة الوهاجة التي أضاءت للماليزيين أساس التعايش واحترام الديانات، وباتت رمزا تاريخيا عالميا وليس محليا فحسب.

من هنا، من هذا المكان، وجدتني اشْتَمّ في مباني هذه المدينة ووجوه أبنائها روائح التجار اليمنيين الذين قدموا إليها يوما ما لغرض الكسب فأسروا الملاكيين بأخلاقهم ليدخلوا بعدها الإسلام ولم تعد بعدهم ماليزيا وآسيا كما كانت.

ففي العام 676هـ أسلم ملك جزيرة (مالاقا) على يَد تجار مسلمين يمنيين قادمين من حضرموت، وأطلق على نفسه اسم "محمد شاه"، وتبعه شعبه في اعتناق الإسلام، وبذا قامت أوَّل دولة إسلامية عملت على نشر الإسلام فيمن جاورها من الجُزُر الماليزية، وفي غضون نصف قرن أصبحت (مالاقا) مركزًا يَشُعُّ الإسلام على المناطق المجاورة، فأسلمت جزيرة (باهانغ) وجنوبي الملايو، ومن هنا يتجسد حديث النبي، صلى الله عليه وسلم، "الدين المعاملة" فالمعاملة بالحسنى لأولئك التجار أسرت شعوب شرق آسيا ليدخلوا الإسلام أفواجاً عن حب ورغبة وشوق، ومن ثم شكلت هذه الشعوب بعد ذلك رموزا لايستهان بها وتعزيزا جبارا للهوية الإسلامية في العالم.

حتى وقت قريب وأنا كلما استقل تاكسياً في ماليزيا مرتديا الثوب، يدعوني السائق بالشيخ ويطلب مني الدعاء له وأولاده، خاصة اذا ما عرف أني يمني.

الانطلاقة التي بدأت من ملاكا، وشكلت حجر الزاوية لكل الماليزيين في تجسيد أخلاق الإسلام الحقة بحب الدين عن صدق والتعايش واحترام الآخر في وقت يعد الاعتزاز بالدين الإسلامي كهوية خالدة لدى الماليزيين أمرا يبعث بهم الرفعة والشرف على أن الدين لله والوطن للجميع، وليس لجماعة أو فئة أو مجموعة من الناس.

وهنا يكمن السر في نجاح الماليزيين في حياتهم الدينية والسياسية والعملية على عكس المجتمعات العربية تماما والتي يحسب لها تصدير الدين إلى آسيا، المجتمعات العربية التي باتت تتناحر على أشياء تافهة وباسم الدين والله أيضا.

منذ أخرج سيد قطب أفكاره إلى حيز الوجود بحركة الولاء والبراء لم تر المجتمعات العربية النور حتى اللحظة من حيث اعتبار أن ما لا يمت للجماعة هو لا ينتمي للدين، وبالمثل سبق هذه الحركة جماعة الولاية الإلهية والآل بقرون عدة لكنها لم تحصد سوى الجهل والويل والدم والجماجم للمسلمين.. والكارثة أن الحركة التي أتت بعدها وإن لم تكن عرقية لكنها أتت من رحمها بنسخة كسابقتها إزاء تجيير الدين لأجل سلطة وسيادة الجماعة دون غيرها.. وهذا الأمر بحد ذاته لم يصطدم مع الواقع العربي فحسب ولكنه يصطدم مع العقل البشري.

فيما شكل الدين لدى شعوب آسيا محبة وأنشودة وصلاة وتعايشا وعملا وابتسامة للآخرين وتصوفا عميقا في حب الله ورسوله دون كراهة أو إقصاء أحد أو الحقد على أحد، وهذا بحد ذاته هو الإسلام الصحيح وأخلاق نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاور يهوديا، وقال "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

لو قدر للتجار اليمنيين الذين أسلمت على أيديهم ماليزيا وآسيا قاطبة أن يعودوا اليوم من جديد ويروا تراجع الأخلاق الدينية لدى العرب بمقابل الارتقاء الأخلاقي لمجتمعات آسيا كالماليزيين لتبرأوا من العرب ونفوا علاقتهم بهم إلى الأبد.

لن تنجو المجتمعات العربية وبخاصة اليمن في ظل استمرار جماعات تربط الدين بها سواء عقائديا أو سلاليا أو سياسيا تنفيذا لمصالح خاصة باسم "الولاية" و"الخلافة الإسلامية"، فالدين لله وحده، والوطن لكل العباد.