راحلون قبل الأوان.. محمد هاشم جندي الفرقة الذي مات قبل حلول السلام لحظة مغيب الوطن

تقارير - Tuesday 04 August 2020 الساعة 06:16 pm
نيوزيمن، كتب/ محمد عبده الشجاع:

هو واحد من آلاف الجنود الذين كانوا ينتمون لقوات الفرقة الأولى مدرع، فقدوا رواتبهم باكراً بسبب عدم ذهابهم إلى الجبهات، رغم أنهم كانوا محسوبين على قوات الجيش.

كان حلمه حياة آمنة، وعيشة كريمة، وحرية ليس لها حدود، ووطن عامر بالأمن والخير والمحبة والرخاء.

يموتون بلا رواتب 

لم يعد اليمنيون يموتون غرباء وحسب، بل صاروا يموتون بلا رواتب، بلا جدوى من الحرب، بلا وطن وبلا سلام أيضاً ، بلا دولة وبلا مستقبل محفز وآمن، بلا بهجة وبلا حلم.

يموتون في المعتقلات بل يموت اقربائهم قبل إطلاق سراحهم، ويموتون أيضا بفعل الأوبئة المتفشية ونقص الأغذية والدواء. 

محمد هاشم عبد الهادي الأهدل المولود في العام 1977م، منطقة شلف قرية "السلقة" مديرية العدين محافظة إب، كان جندي في "الفرقة" لأكثر من 20 عاما؛ قبل أن يجتاح مليشيا الحوثي مدن الشمال، ويمطرونها بالرصاص والبارود والصرخات.

كان يحرس الوطن أو هكذا خيل له وقت ارتباطه بالجيش، وكان يتحسر على نفسه في الوقت ذاته؛ من خيبات الزمن، وتقلبات الدهر، ومرارة العيش في واقع لا يرحم.

النضوج باكرا

نضج باكراً، أحب الحياة كثيراً وعاش هائمًا؛ بما فيها من جمال وعنفوان.

أتذكره في الإبتدائية وهو يردد مع صوت الكاست، "تعلق قلبي بطفلة عربية تنعم بالديباج والحل والحلل.. لها مقلة لو أنها نظرت بها إلى راهب قد صام لله وابتهل".

كان ذلك الطفل يوصل رسالة لأحد ما في مرحلة الثمانينات، ولم يكن قد تجاوز ال 12 من عمره، يفتح صوت المسجلة في سطح المنزل، يمشط مع الريح شعره السلسل والكثيف، شعر مدهون بعناية فائقة كممثل هندي، ألم أقل لكم أنه نضج باكرًا.

لم أكن أفهم العشق بعد والتطلع إلى حياة بكامل أناقتها، حين زرته وبقيت 3 أيام لديهم في بيتهم وهي مهمات لم أقم بها كثيرا في صغري وأنا الفتى الخجول.

ذهبت معه إلى المدرسة كمستمع وأنا الغريب من منطقة أخرى، تمشينا في أزقة القرية ومنعطفاتها، تعرفت على البيوت المجاورة، أكلت من طعامهم، وشربت من مائهم، حين غادرت قريتهم عائدًا وأنا اليتيم بلا أم، غادرت حزينا لأسباب أعرفها أنا وأبي.

جندي الفرقة

محمد مثل كثير من الشباب اتجه للتجنيد في الجيش، تزوج المرة الأولى وانفصل بعد سنوات دون أن يكون له ولد، ثم تزوج المرة الثانية وانتهت التجربة بموته إثر مرض عضال دون أولاد.

حين زرته في صغري وتعرفت عليه للمرة الأولى أتذكر كان له أخا صغيرًا ووسيما، أكثر ما أتذكره أنه كان لطيفا جدًا وودودًا أيضا، هو الآن شابا يافعًا اغترب وتزوج بالتأكيد، على عكس محمد الذي التقيته مرارًا وتكرارًا في صنعاء وفي القرية.

محمد الذي لم يمت بعد في خاطري، لا أدري هل لا زال أخاه الذي لا يحضرني اسمه تماما ربما (أنور)؛ كما كان طفلا صغيرًا ضحوكا أم أن الحياة والغربة قست عليه كما فعلت مع كثيرين.

طباع استثنائية

يبدو لك من صوت محمد الهادئ كأنه طفل وإن ظهر بياض الشعر وقد غزا رأسه كاملا ومن منا لم يشيب رأسه في هذه الظروف.

محمد لا زال طفلا، لا زال عاشقا، شعره السلسل بدأ يتساقط من مقدمة رأسه، ومن لم يتساقط شعره في هذا البلد، كان يكرمه بالحناء ويرتبه كما لو أنه فلذة كبده.

يحدثك بقلبه وروحه، قليل الجدل، لطيف في النقاش هادئ الطباع؛ إلى درجة أنك تقول كيف التحق هذا بالمؤسسة العسكرية وكيف عاش في عنابرها.

كثيرون يذهبون إلى أماكن ليست على بالهم، وأعمال لا تتناسب مع طبائعهم، ودوائر وجدت كفخ لتحتضن أعمارهم، وتسحق وجوههم في لحظات الهجير.

كثيرون وجدوا أنفسهم حبيسي الأماكن الطارئة والطاردة، رمت بهم الأقدار على حين غفلة وفي بالهم التغيير.

وجدوا أنفسهم مستسلمين للعنابر حيث استجد بهم الحال هناك، وللقيروانات الممتلئة بوجبة الفول، وحلقات الطعام، و(الكدم) المخصصة لكل جندي، والقوطي الشاي، والمرق الممزوج بالحلبة، وطوابير الصباح في أيام البرد القارس.

لم يكن محمد متحزبا، ظل قريبا بعيدا من واحات الوئام، حاول ألا يسقط في الحرب وأن يتجنب الصراعات.

شاب مثله كان لديه خيارات عديدة أن يلتحق بمعسكره السابق، وطاقمه البائس الذي أضاع وضيع، أو أن ينتمي للغزاة الجدد بحكم لقبه.

القرية كوطن أخير

عاد محمد إلى منطقته حين وجد الصراع يشتد والبلد تنحدر إلى الهاوية، محاولا البقاء بعيدا عن إراقة الدماء، فلا وطن تبق، ولا عمل ولا راتب ولا رتبة.

لقد ذهبت جموع من الفاسدين وأتت مجاميع من المفسدين.

ظل يعمل ويكافح لا يريد أن يكون عالة على أحد، حاول أن يعيد علاقته بالأرض لعل الفال خير، لكن الأرض نفسها كانت تتمزق وهو يراها بعينه.

صغر الوطن ومعه صغر الذين كانوا يعتقدون أنهم كبارا وأنهم فوق الجميع، وأتى من يحقر كل الذي حوله ويدعي نسبًا يجاوز به السماء.

الرحيل وأطباء العذاب

عانا الجندي محمد هاشم من مضاعفات في "الكلى" فقرر زيارة الأطباء في مدينة إب، لكنه في كل مرة كان يعود ادراجه وقد تلقى تشخيصًا مختلفا وأدوية جديدة، لينتهي به المطاف في غرفة العناية المركزة.

تم تخديره من أجل بدء جلسات الغسيل الكلوي ومواجهة تكسر الدم وعمل قسطرة بحسب الأطباء، لكن ذلك لم يسعفه لقد أخطأ الأطباء في كل شيء مات الرجل بعد أسبوع من المضاعفات دون وداع على الأقل.

لقد تجرأ عليه الموت في حضرة الأطباء الذين فشلوا إدارة المعركة مع المرض وتشخيصه، حتى الراحل نفسه لم يستطع الاستمرار دون أن تكون للمعاناة بقعة، وللصبر ساحة للنزال.

محمد شاب استثنائي وإنسان عابر لا يشبهه الكثير من العابرين، كان يعج بالأحلام والتطلعات، وكان ينتظر حلول السلام مع أول صافرة يطلقها دعاة المحبة وعودة الوطن الغائب.

مات محمد قبل أن يضحي كعادته في كل عيد، تاركا خلفه أبا مكلومًا وأما حزينة وزوجة متعبة، وأهل غير مستوعبين الرحيل، وأخوة حيارى، وأحباء مثخنين بالدهشة ووطن يتم.