لماذا قتلت الإمامة المطرب سعد عبدالله؟

الفن اليمني منذ سبأ وحمير إلى العهد الجمهوري

السياسية - Tuesday 12 October 2021 الساعة 10:11 am
نيوزيمن، إعداد/ د. فاروق ثابت:

اقترن وجود الإنسان اليمني في الأرض بالحضارة والفن والاقتصاد، وأكدت النقوش مدى الرقي الذي عاشه أجدادنا على مدى التاريخ ويؤرخ لظهور المعزوفات الفنية إلى الألف الأول قبل الميلاد، وقد اكتشفت منحوتات على الرخام لآلة العود بجانب آلات أخرى ووجدت الآلة ذات خصوصية متفردة للحضارة اليمنية القديمة تشبه شكل العود الحالي بهيئته نصف الكمثرى ذي الثقبين.

ولما كانت القصائد هي عمود الفن فقد وجدت القصيدة اليمنية القديمة ك"ترنيمة الشمس" موزونة وإن كانت بلغة مختلفة، لكن ذلك يؤكد التأسيس لبداية بحور الشعر العربية فيما بعد وفقا للنقاد والمؤرخين.

وفي حين وصلتنا الكشوف الأثرية توثق لأول ظهور للآلات منذ الألف الأول قبل الميلاد يشير القلقشندي أن الغناء في اليمن يرجع إلى عهد عاد، ويذهب المسعودي في كتابه "مروج الذهب" ان اليمن قديماً عرف نوعين من الغناء: الحميري والحنفي، وكان اليمنيون يسمون الصوت الحسن ب"الجدن" واخذ هذا الاسم من الملك الحميري اليشرح بن ذي جدن، احد ملوك حمير، ولقب بذي جدن لجمال صوته واليه يعود غناء اليمنيين وفقاً للمسعودي.

وهو الأمر الذي يتنافى مع ما يورده البعض أن الغناء اليمني ومقاماته انطلق منذ القرن الخامس عشر إبان عهد نجل شرف الدين، وهذه مقولة أيضا نحسبها غير دقيقة من حيث أن الأئمة حاربوا الغناء اليمني وطاردوا الفنانين ولا يذكر الفن في عهدهم الا بأسوأ ذكر.

الموشح الاندلسي يمني

يشير الدكتور عبدالرحمن الانصاري إلى ان اصل الموشح الاندلسي جاء من اليمن ابان فترة الفتوحات الاسلامية، يتفق معه في ذلك المؤرخ الفنان محمد مرشد ناجي ثم الاستاذ محمد عبده غانم، وهذا ما يؤكد اصالة الفن اليمني وتأثيره في الثقافات المجاورة عن طريق محاكاة انتجت لنا فنا راقيا هو الموشح الاندلسي الذي يعده باحثون ان اصله يمني.

واشار المستشرق البريطاني "هنري فارمر" بان اليمنيين بلغوا المراتب السامية التي بلغها الساميون في مجال الموسيقى.

العهد المسيحي

وقد أكدت وثيقة بيزنطية وجود الغناء اليمني في العهد المسيحي، أشارت إلى وجود قانون لعقوبات ضد بعض الموسيقيين اصدره اسقف ظفار الحميري ويتوقع دخول مقامات يونانية آنذاك ك"الدوري" و"الفيرجاني" وفقاً للناقد جمال حسن.

العهد الإسلامي

ووجود عقوبة على مغنيتين يمنيتين في عهد الخليفة ابوبكر الصديق بموجب شكوى والي صنعاء حينها، دليل وجود الغناء اليمني في العهد الاسلامي، غير ان التحريم ساد بشكل تام للغناء، وجرت مطاردة الفنانين وصل ذروته منذ حكم الرسيين القادمين من طباطبا التابعة لاقليم اذربيجان شمال شرق إيران حالياً.

عهد الأئمة

وإن ظل اليسير من الغناء عند بعض الفنانين خلال عهود الائمة، كانت الضربة للفن ايضاً بتسمية هؤلاء ب"المزاينة" تحقيراً لهم وامتهانا للفن اليمني، وهو الأمر الذي جعل الناس تنأى عن الفن بشكل شبه تام.. على اعتبار أن ذلك "انحلال" أو "مجون" و"اساءة للدين" ظاهراً، فيما الاصل في ذلك استهداف الهوية الثقافية والفنية للشعب اليمني ككل عن طريق عزله عن محيطة ووضع حجاب بينه وفلسفه الحياة من حوله، وكما يقول الفلاسفة، فإن الفن هو الطريق إلى الحياة، غير انه تم قلب هذه الصورة من قبل الأئمة إزاء ربط الأمر بالدين، مستغلين رقة وبساطة اليمنيين وتدينهم.

فيما سمح الأئمة بأداء الأناشيد، وثمة تواشيح وقصائد غنائية وصلتنا ايضا لابن شرف الدين وابن الامير الصنعاني وغيرهما من الاسر السلالية تبدأ وتنتهي بالصلاة عليهم وآلهم فخراً ب"مضر" و"عدنان" و"هاشم" دون القحطانية اليمانية، يرمز في ذلك للطابع السلالي دون الرسالي..

واللافت الآن أن الكثير يشير إلى هذه الأناشيد كموروث ثقافي يمني، غير أن الرمزية المكرسة فيها تظهر التمييز العنصري السلالي، فمثلا الوردة في الحقل تعتبر وردة لكن عند قطفها واهدائها لاحد فإنها تتحول إلى رمز يعني الحب، وهكذا تدل الرموز الموجودة في الانشودة أو الأغنية المطعمة بمفردات العنصرية السلالية والغناء مثلما يتجلى الرمز العنصري أيضا في لباس المنشد إذا كان سلالياً.

نهاية الفنان سعد عبدالله

بعد فترة استرخاء إبان العهد التركي في مطلع القرن ال19 كان الفنان سعد عبدالله هو الأسوأ حظاً من بين الفنانين حين لم يتمكن من الهروب كرفاقه من بطش الإمام يحيى حميد الدين، إذ وقع في قبضة القبائل لينتهي الأمر بمقتله، فيما تمكن كثير من الفنانين اليمنيين الهرب إلى عدن أو خارج اليمن، منهم عتيق محمد وزير وعدد من عائلة الماس.

العهد الجمهوري

كانت ثورة 26 سبتمبر هي الانعتاق الحقيقي للشعب اليمني للانطلاق نحو آفاق الحياة الرحب، يبرز في ذلك اتجاه الفن الذي حضر بقوة بحيث عاد الشاعر اليمني علناً إلى وجدانه الشعري وانطلق يعبر عما في داخله مرتبطا بهويته والأرض والإنسان التي عزل عنها طوال قرون.

وشكلت الأغنية الثورية منذ يوم ال26 من سبتمبر 1962 الحافز الشعبي التوعوي الأول لدفع الناس للحياة ورفض ظلام الكهنوت، لذلك فقد جسدت الأغنية ثورة أخرى ضد الإمامة إلى جانب ثورة رفاق السلاح، وأحسب أن ذلك أحد أهم الأسباب التي دفعت بالائمة إلى تحريم الأغنية اليمنية خلال فترة حكمهم الطويلة. 

وعندما نشير إلى عمالقة الفن الثوري اليمني يجب أن يتصدر ذلك عمالقة شعراء الثورة في اليمن وعلى رأسهم الأستاذ عبدالله البردوني والدكتور عبدالعزيز المقالح وصالح سحلول ومحمد محمود الزبيري والقردعي وغيرهم الكثير.

وهناك قصائد كثر، والإشارة الأخص للفنانين الذين صدحوا بأصواتهم يتغنون بالثورة في أرجاء اليمن الكبير مع الاشارة إلى ان الصدى العروبي والقومي للثورة اليمنية دفع فنانين عربا للتغني بها كعمالقة الفن المصري آنذاك عبدالحليم حافظ وفايدة كمال ومحمد فوزي ونجاة الصغيرة وشفيق جلال وكارم محمود، فيما غنى لثورة سبتمبر من السوريين رويدا عدنان وفؤاد غازي، وشكلت هذه الاغاني العربية ثورة أخرى ضد الكهنوت من خارج حدود اليمن.

منذ قيام الثورة اليمنية عاد أقيال اليمن إلى كينونتهم وهويتهم التي حاول الأئمة سلخها عنهم طوال قرون من الزمن لتتكون انبعاثة شعرية جديدة ارتبطت بالارض والفلاح كجزء من الثورة اليمنية الخالدة، الانبعاثة التي نمت وترعرت وربت جذورها وسيقانها واوراقها وثمارها على حواف الانهار وجنبات ومدارب السدود والوديان الحميرية.

الأرض والثورة والإنسان التي جسدها وعمق روابطه بها أدباء اليمن في الداخل والخارج لعل ابرزهم الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان، والمحضار ولطفي جعفر امان، والمقالح ومطهر الارياني، وعلي صبره وجابر رزق، وكثير من الشعراء الذين تحولت قصائدهم إلى مغان يرددها اليمنيون في سهول ووديان اليمن الكبير، ولعل من ابرز هؤلاء الفنانين على سبيل الذكر لا الحصر الآنسي، وايوب طارش، والمرشدي، والسنيدار وآخرين كثر..

كلما يمعن الباحث في فن الثورة تتردد في الذهن ثنائية الخضر والانسي "جيشنا يا جيشنا.. جيشنا يا ذا البطل" ثم أغنية "أنا الشعب" للسنيدار.

فيما يحلق "الطير الرمادي" ل"يردني بلادي" بمعية المرشدي 

ليدخل "فرسان خليفة" صادحا "حيو نصر الشعب"

وهذا علي السمه ينادي "اخي يا شباب الفداء" وقد طار بنا قبل ذلك على بساط "البالة" وهو يتذكر "عسكر الجن".

واما أحمد بن أحمد قاسم فتستريح معه المهجة، وهو يخاطبها "يا أخي يا بن اليمن.. انت ماض انت في فم الزمن".

فيما يصدح حمود زيد عيسي للمهاجرين خارج اليمن ب"اخي المهاجر زمان الفرد قد ولى وشعبك الحر شرد اسرة الطغيان".

اما أبو الحوارث محمد حمود فيتألق قائلا "هذه ارضي وهذا وطني سوف افديه بروحي ودمي".

وفيهم يتجلى ايوب طارش حاملا راية الثورة اليمنية وهو يردد ونردد معه ونحن بوضعية التحية العسكرية:

"دمت يا سبتمبر التحرير يا فجر النضال 

ثورة تمضي بإيمان على درب المعالي

تسحق الباغي.. تدك الظلم تأتي بالمحال".

عودة الكهنوت

بعد مرور 59 عاما على قيام الثورة اليمنية عاد الكهنوت من جديد محاولا إطفاء جذوة الثورة اليمنية، ومطاردا للحياة والفن والفنانين.

لكن ذلك سيبوء لا محالة لأن الشعب قد اختار وعرف طريقه إلى الحياة منذ ايلول في العام 1962.. اليوم الذي أنار صباح الشعب ولفظ الظلام إلى غير رجعة.