الفـــن الصنعانـــي.. اليمن في أغنية

السياسية - Monday 06 December 2021 الساعة 08:46 am
نيوزيمن، عامر عبدالكريم:

"جلّ من نفسّ الصباح،  قال المعنى، وا مغرد بوادي الدور"... كانت هذه الأغاني وغيرها، كافية لدفع إحدى الباحثات التونسيات لاختيار الأغنية الصنعانية موضوع دراسة الماجستير، لكن ما جذبها أكثر أغنية “وا مغرد بوادي الدور” التي أداها الفنان اليمني أبو بكر سالم.  

قبل سنوات قررت الفنانة التونسية مهر الهمامي أن تكون الأغنية الصنعانية نقطة انطلاقها لنيل الدراسات العليا في العلوم الموسيقية، بالرغم من صعوبة الحصول على المراجع والدراسات الميدانية، والافتقار للتدوين الموسيقي للأغاني اليمنية، كما أخبرها المشرفون على رسالتها ومع ذلك قررت خوض غمار البحث في هذا اللون الغنائي الذي ظلت لسنوات تعتقد أنه خليجي.  

“الأغنية الصنعانية هي لون غنائي مميز وله بصمة خاصة ذلك أنه اقترن بالموشح الحميني والحكمي، وهو يؤدى لغرض الاستماع في جلسات المقيل الخاصة، صحبة آلة العود والإيقاع”، تقول الفنانة التونسية مهر الهمامي مؤكدة في حديثها، إن هذا اللون “لا يؤديه إلا المحترفون، لما يحتويه من تقنيات فنية عالية تتطلب حرفية في الإتقان”.

وتضيف الهمامي إن “الأغنية الصنعانية” تعد من أرقى الأشكال التراثية الموسيقية في اليمن، ولها الكثير من المميزات في أداء مقاماتها والتي تعتمد على الأرباع، كذلك على المقامات الشرقية البحتة، حجاز، سيكا والرصد، بيات، نهاوند“.

تمتاز الأغنية الصنعانية بعراقة تاريخية قديمة، خاصة أن أول موشح حميني قد ظهر في صنعاء منذ مئات السنين، كما تؤكد الباحثة التونسية.

مضيفة إن الغناء الحميني “يتميز بمحتوى يشمل حالة واسعة من الحياة الاجتماعية بمختلف مشاهدها المادية والمعنوية والإنسانية، لأن مضمونه يتناول الحب، ومفاتن المرأة على وجه الخصوص، هذا إلى جانب الدين، والاستمتاع بالحياة".

 إضافة إلى أننا نجد أيضاً مضمونه يتعلق بالقات، والبيئة، والطبيعة، ويشمل كل المضامين، ويتميز بتحرره من قواعد اللغة العربية الفصحى والتأثر باللهجة المحكية المحلية.

وحول انتشار الأغنية الصنعانية، تقول مهر التي نالت الماجستير في علوم الموسيقى في 2017 عن رسالتها حول الأغنية الصنعانية: “يرجع لروادها من فنانين وملحنين، أمثال الفنان أحمد فتحي الذي عمل على انتشارها عربيا، والفنان المرحوم أبو بكر سالم وهذا على غرار جمالية المقام الموسيقي والإيقاع”. 

 وقد حظي هذا باهتمام كبير من قبل الكثير من الباحثين في الغرب والشرق نظراً إلى تفرده بالكثير من الخصائص الفنية والموسيقية التي جعلت منه موروثاً موسيقياً عالمياً اعتبرته اليونسكو رائعة من روائع التراث العالمي وصنفته ضمن قائمة التراث الإنساني الشفهي في العالم. 

جذور الأغنية الصنعانية

لم يتوصل الباحثون إلى البداية الأولى للأغنية الصنعانية، فرغم الدراسات والجهود التي بذلت في هذا المجال، فإنها تعود وتؤكد عن وجود أغنية صنعانية منذ زمن طويل، لكن بأسلوبها المتعارف عليه حالياً لا أحد يعرف. 

وبالتأكيد أنها شهدت تغيرات كثيرة، خاصة أنها أغنية متصلة بالغناء اليمني ككل، ويجمع الباحثون أن الأغنية الصنعانية عرفت بالتسامح،  كذلك كان معظم شعرائها من الطبقات الحاكمة أو المقربة من الحكام، وبحسب الشواهد التاريخية فإن حيدراغا، جاء مثلا في بداية الدولة القاسمية، وكان شاعراً ويقال إنه لحن الكثير من الأغاني.

وهذا يؤكد الحضور الفني في تلك العصور، لكن ما تجمع عليه الكثير من الشواهد فإن الغناء في صنعاء شهد نوعاً من الانقطاع والتيه داخلياً خلال أكثر من مركز، إما بسبب القمع أو انقضاء عهد الرعاية له، وهذا جعل الكثير خلال فترات طويلة يمارسون الفن بسرية تامة. 

وبالرغم من الامتداد الزمني الطويل للأغنية الصنعانية فإنها لم تأخذ حظها بالانتشار كما هو الحال في مصر، بظهور السيد درويش وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي ومحمد القصبجي وغيرهم على أنقاض الفن الذي كان سائداً في القرن الثامن عشر والتاسع عشر.

 وترجع الكثير من الدراسات التي تدور حول الأغنية الصنعانية أن هناك  أسبابا كثيرة ساهمت في عدم تطور الأغنية الصنعانية رغم عراقتها.

وعلى الرغم من حفاظ هذا النوع من الغناء على شكله التقليدي وارتباطه بالشعر الحميني كانت تحدث طفرات بسيطة من التطوير ترتبط عادة بالشاعر أو الملحن أو الفنان شخصياً، وبسلطته الروحية أو الدينية أو المالية أو الاجتماعية كما يذهب الكثير من الباحثين.  

وتجمع الكثير من المصادر التاريخية أن جذور الأغنية تمتد إلى ما يزيد على 500 عام، وتحديداً إلى فترة ظهور الشاعر الحميني الشهير محمد بن شرف الدين، الذي برز في النصف الثاني للقرن السادس عشر.

فخلال الخمسمئة عام السابقة، شهدت صنعاء حملتين عسكريتين تركيتين، ومن المؤكد أنهما تركتا أثراً ثقافياً، على الأقل من خلال المارشات العسكرية التي التصقت بجيوش الدولة العثمانية، خاصة في ظل وجود ملامح لحنية تركية وإيقاعية في الأغاني الصنعانية، مثل أغنية “طرب سجوعه وكرر” التي غناها الفنان علي أبو بكر باشراحيل، أحد سلاطين الغناء الصنعاني القديم، كذلك أغنية معشوق الجمال، بصوت محمد الماس، كما يشير الأكاديمي اليمني محمد عبده غانم في كتابه “شعر الغناء الصنعاني”.

ويؤكد الصحفي المهتم في الموسيقى جمال حسن أن لحن زامل “خيلت براق لمع”، الذي أدّاه إبراهيم الماس، بمصاحبة العود على إيقاع شبيه بالمارش. ويعود الزامل إلى فترة حصار فيضي باشا، بجيش مدعّم بالمدافع، وردت القبائل على حصار فيضي باشا بهذا الزامل. 

ويضيف إن التأثير التركي اقتصر بصورة محدودة في لحن المارشات، وربما بعض الألحان الأخرى، من دون أن يمتد إلى صناعة الموسيقى، مثل إدخال آلة العود، إذ ظل الغناء خلال تلك الفترة مرتبطاً بآلة القنبوس (عود صغير ذو أربعة أوتار). 

انتشار واسع

خلال السنوات الأخيرة انتشرت الأغنية الصنعانية، وبرزت أسماء فنية جديدة للساحة اليمنية، وهؤلاء بدأوا بتقديم أشكال جديدة للأغنية الصنعانية، وبحسب الصحفي جمال حسن، فإن “الأسماء التي تغني الصنعاني اليوم، لم تعد تغني بالأسلوب التقليدي البحت، كذلك الألحان أصبحت مبسطة”، ويعود ذلك كما يرى “بسبب سماعهم أغاني عربية، وتعرفهم على أساليب مختلفة”. 

ويعتبر جمال أن سبب انتشار الأغنية الصنعانية يعود إلى الألحان الجديدة التي فرضها بعض الفنانين كحمود السمة وحسين محب وصلاح الأخفش وآخرين، مقارنة بالأنواع الأخرى التي اقتصرت على ألحان قديمة، والتي لم تلق حظها من الظهور. 

وفي ظل الانتشار الواسع الذي شهدته الأغنية الصنعانية، وظهور بعض المغنين الشباب، الذين برزت نجوميتُهم في الآونة الأخيرة وتصدّروا مشهدَ الغناء اليمني، وتمكّنوا من خلقِ قاعدةٍ جماهيريةٍ واسعةٍ، وأصبحت بعضُ أغانيهم رائجةً في الداخل والخارج، فإنها ما زالت تدور حول نفسها ولم تشهد أي إضافات جديدة،  كما يرى بعض الباحثين، حتى إنها لم تخرج عن المسار القديم، بل أضيف لها بعض التجديد وأدرجت لها بصمات خاصة، على غرار أنها أصبحت تؤدى بالعود الشرقي وليس بالعود اليمني “القنبوس”.

تميز الغناء الصنعاني 

وعرف المستشرق الفرنسي جان لامبير الغناء الصنعاني بأنه موسيقى تقليدية من اليمن له تاريخ طويل ومركّب، كما أنه نمط من الغناء مستمد من أشعار تراثية شتى، لذا يشكل جزءا لا يتجزأ من المناسبات الاجتماعية، مثل “السمرة” في الأفراح، و”المقيل” أو “المقيال” في تجمعات الأصدقاء غير الرسمية، والساعة السليمانية.

 وفي إطار الموسم الثقافي الثالث عشر لـ”دار الآثار الإسلامية” أضاف الباحث الفرنسي الذي استغرق عشرين سنة من أجل سبر أغوار هذا الفن، أن الغناء “الصنعاني” يتميز بآلتين موسيقيتين أصليتين لا توجدان في أية موسيقى عربية أخرى، أولاهما “القنبوس” مثل ما يسميه أهل حضرموت، كما يطلق عليه في صنعاء “الطربي”، وهو عود أصغر حجما وطولا من العود المعروف العادي المصنوع من الخشب ويحتوي على أوتار أربعة، وذراع مغطاة بجلد الماعز، وهو مرصع بالنحاس، وتوجد في أعلى ذراع العود مرآة كي يطمئن الفنان الى هندامه، وثانيتهما آلة نقر تشبه الصحن النحاسي يطلق عليها “صحن موميات”، وتنقر من خلال تثبيت الصحن على الإبهامين ونقره بالأصابع الثمانية الباقية.

أما الأصول النصية والشعرية للغناء الصنعاني يقول المستشرق لامبير بأنها عبارة عن أشعار كتبت بعدة لهجات يمنية، إلى جانب العربية الفصحى، فقد اشتهر بمضمونه العاطفي والتلاعب الذكي بالألفاظ ويعتبر الكثيرون كلمات هذه الأغاني تجميعا لأكثر الأشعار اليمنية رصانة وذيوعا.

ووفقاً للأكاديمي اليمني محمد عبده غانم في كتابه “شعر الغناء الصنعاني”، فإن الغناء الصنعاني ظل سائداً في اليمن لفترة طويلة، ففي عدن ظلت الأعراس تبدأ بأغانٍ صنعانية حتى الثلاثينيات، وذلك لكونه الغناء الراقي في اليمن، مقارنة بالأشكال الأخرى، وتلك المركزية تعرضت للمزاحمة من الداخل عبر الغناء اللحجي والحضرمي، ومن الخارج من خلال انتشار الأغاني المصرية والهندية. فالقرن العشرون شهد محاولة للخروج عن النظام القروسطي للغناء الصنعاني، وإن كان محتفلاً بأسلوب باروكي محلي يعتد بالزخرف والتطريب، وفي أواخر خمسينيات القرن العشرين المواكب لثورة سبتمبر، شهدت الأغنية الصنعانية تثويراً من داخلها نفسها. 

ورغم المعوقات التي تواجهها الأغنية الصنعانية على كافة المستويات، فقد ظلت حاضرةً في زمن الحرب أيضاً، وزاد الاهتمام بها من قبل الكثير، خصوصاً جيل الشباب.

ومع هذا الاهتمام المتزايد يوماً بعد آخر، تظل الأغنية بحاجةٍ إلى التطوير العلمي والتقني الذي تقوم على أساسه الأغنية. كما أن هذا التطور مرتبطٌ بتطوير المؤسسات ومعاهد التأهيل، التي من خلالها تتطور الأغنية اليمنية وتخرج من طابعها التقليدي، وأن تغنى في المهرجانات والعروض الموسيقية في إطار عربي وليس محلي فقط.