الصراع من أجل البقاء: النساء وقصص كفاح ملهمة في أوقات النزاعات المسلحة

السياسية - Friday 10 March 2023 الساعة 04:05 pm
عدن، نيوزيمن، بشير عمر:

قتلت أم أحمد في منتصف يوم مشمس عندما كانت عائدة من حقلها؛ داست بإحدى قدميها لغما أرضيا خلفته سنوات الحرب الطويلة في مدينة الحديدة الواقعة في الجزء الغربي من اليمن. وما هي إلا ثوان معدودة حتى فارقت أم أحمد الحياة. كان جسدها لا يزال رطبا من أثر العرق، وإلى جوار جسدها الذي قذفته شدة الانفجار معولها الذي اعتادت حرث الأرض به منذ نعومة أظافرها.

لم تكن أم أحمد محاربة في معركة ولم تنتم إلى أي طرف سياسي، وإنما كانت ضحية مثل آلاف النساء اللاتي يدفعن ثمنا باهظا في حرب ليس لهن فيها ناقة ولا جمل. تتنوع قصص الضحايا الأبرياء، خصوصا النساء والأطفال، ويجمعهم ثمن واحد يدفعونه: أرواح تزهق وأطراف تبتر.

تصارع النساء على البقاء حيات في السياقات التي تشهد نزاعات مسلحة، في خضم بيئة تتسم غالبا بالعداء وتهميش دور المرأة. بل قد يصل الأمر إلى حد استخدام المرأة أداة حرب حينما تتعرض للعنف الجسدي. معاناة النساء بسبب الحرب لم تكن وليدة العقود الماضية وإنما بدأت منذ آلاف السنين، ربما عندما استعرت أول حرب بين بني البشر.

لذلك، غالبا ما تتحمل المرأة أوزار الحروب والنزاعات المسلحة فيتقلص بذلك دورها الاجتماعي وتتضاءل خياراتها وفرصها كلما طال أمد النزاع. إذ تجد المرأة نفسها في وضع اقتصادي منهار يفرض عليها اللجوء إلى خيارات أحلاها مر، مثل العمل ببعض المهن التي لم تعتد العمل بها من قبل والتي قد تعرض حياتها للخطر، لا سيما في مجتمعات لا زالت تؤمن بأن دور المرأة يقتصر على توليها المهام المنزلية وليس الانخراط في أعمال يهيمن عليها الذكور.

«فقدت زوجي أثناء الحرب ولدي ثلاثة أطفال: ابنتان وولد، اضطررت للعمل؛ كي لا يتضوروا جوعا ولكي أستطيع إرسالهم إلى المدرسة لإكمال تعليمهم. أواجه الكثير من التحديات مثل: النظرة الاجتماعية القاصرة والوضع الأمني، أبدو أكثر عرضة من غيري للعنف والتهميش؛ جراء عملي كحارسة في أحد المجمعات التجارية بصنعاء، أقف أمام بوابة الحراسة أكثر من ثماني ساعات يوميا، فيما تحدث الكثير من الخلافات أمام المول الذي أعمل به؛ لوقوعه على شارع رئيسي وقد تتصاعد الخلافات حد إطلاق النار». أخبرتنا نعيمة محمد.

بارقة أمل مفقودة

قالت أم محمد، التي تعمل في أحد المراكز الصحية في ليبيا: «قتل ولداي أمام عيني واعتقل زوجي في أثناء هروبنا بعد اندلاع قتال شرس في المنطقة التي كنا نقطن فيها في إحدى المدن الليبية. لم يتبق لي شيء في هذه الحياة سوى ابنتي الصغيرة التي تبلغ سبعة أعوام. اضطررت إلى الفرار إلى مدينة أخرى طلبا للنجاة، وحين وصلت إليها كنت غريبة ووحيدة وأعاني ألم الفقد وأهوال ما رأيته في أثناء نزوحي. لم يكن الاستقرار سهلا، كان علي أن أتعلم مهنة التمريض لكي أواجه ضغوط الحياة وأواصل العيش بكرامة وأعول ابنتي الوحيدة».

تقول أم محمد إنها تعمل في هذه المهنة مضطرة بعد وفاة زوجها وتدني الحالة المعيشية في بلد يعاني من تبعات نزاع مسلح استمر لأكثر من إحدى عشرة سنة، بلا بارقة أمل في وجود حل ينهي حالة الانقسام السياسي الذي يؤثر على المجتمع الليبي بأسره، لا سيما النساء والأطفال. اضطر كثير من النساء في ليبيا إلى العمل بسبب الحرب التي حولت كثيرات إلى أرامل يواجهن مستقبلا غامضا.

كل طرق الحرب تقود إلى المجهول أو الجوع

تكافح النساء في ليبيا واليمن وأفغانستان والصومال ودول عديدة تشهد نزاعات مسلحة وحروبا كي يتمكن من الوقوف على أقدامهن في ظل متغيرات أمنية واقتصادية واجتماعية سريعة، لكن الحرب تحاصرهن من كل الجهات. ففي زمن الحرب تحتل الاحتياجات العسكرية سلم الأولويات، ما يفاقم معاناة النساء ويجعلهن عرضة للانتكاسات الاقتصادية والاجتماعية المتتالية.

سردت لي لاجئة صومالية كيف فرت من جحيم الحرب في الصومال في سن العشرينيات مع أطفالها الثلاثة وعبرت معهم البحر الأحمر إلى اليمن مخاطرة بكل شيء بعد أن قتل زوجها إبان الحرب الأهلية الصومالية. تركت كل شيء وراءها: أحلامها، ذكرياتها، وكل شيء شكل شخصيتها. هكذا تضع الحرب المرأة بين خيارين أحلاهما مر.

رأيت نساء كثيرات يغشى عليهن بسبب ضنك العيش وأحيانا بسبب شدة الجوع وأهوال الحياة ومصائبها. صادفت امرأة تبكي كطفل لشدة جوعها. لم يفارق وجهها الشاحب وغزارة دموعها ذاكرتي. وأتذكر مشهد النساء في الصباح الباكر وهن يبحثن بين مخلفات القمامة عن العلب البلاستيكية لجمعها وبيعها لسد رمقهن.

تضطر هؤلاء النساء إلى الخروج في الساعات الأولى من الصباح لكيلا يراهن أحد، رغم برودة الجو في مدينة صنعاء التي قد تصل إلى الصفر في بعض الأيام. هذه بعض من آلاف القصص التي تنسجها الحروب والنزاعات المسلحة في حياة ملايين النساء في البلدان التي ترزح تحت العنف.

إذ تقتل الحرب المرأة بيد أبيها

ويتعرض كثير من النساء في البلدان التي تشهد نزاعات مسلحة للعنف الاجتماعي والجسدي باعتبارهن فئة ضعيفة في المجتمع. إذ تتفاقم خطورة حوادث العنف المنزلي الموجه ضد النساء بسبب ظروفهن الاجتماعية والاقتصادية ما يؤدي إلى خلق بيئة اجتماعية وأسرية مضطربة تؤثر سلبا على الواقع الاجتماعي وينجم عنها تفكك العديد من الأسر، الأمر الذي يزيد احتمالية وقوع الأطفال ضحايا للاستغلال.

ومن القصص التي لا تبارح ذاكرتي أبدا خبر صادم عن أستاذ قتل بناته الثلاث في مدينة صنعاء؛ أغرقهن حيات في خزان ماء بعد أن سقط فريسة لخوفه أن يقعن ضحايا للاستغلال، عقب توقف راتبه لسنوات وعجزه عن التكفل بنفقاتهن. هكذا تفعل الحروب بالنساء والفتيات فيصبحن ضحايا، ليس لأنهن شاركن في الحرب وإنما بسبب هشاشة وضعهن الاجتماعي.

ويشكل المقاتلون العائدون من جبهات القتال خطرا محدقا على نسائهم والفئات المجتمعية الأخرى، إذ يعاني معظم هؤلاء الأشخاص من الآثار العقلية والنفسية الناجمة عن أهوال الحرب التي تنشئ لديهم نوعا من أنواع العنف المرتبط باستخدام السلاح.

يقدم بعض هؤلاء على قتل نسائهم لأسباب هينة تتعلق بإعداد الطعام أو لأسباب أسرية أخرى بسيطة. يقتل بعض حملة السلاح المئات من النساء كل يوم في السياقات التي تشهد نزاعات مسلحة وغالبا لا يحاسبون على مثل هذه الجرائم. وتعاني الدول التي تشهد نزاعات مسلحة غياب المؤسسات القانونية وأجهزة إنفاذ القانون، ما يعني إفلات الجناة وإهدار العدالة.

دافع التسول! قالت: الحرب!

تحرم الحرب ملايين النساء والفتيات من الحصول على التعليم، ما يقلل قدرتهن على الاعتماد على أنفسهن اقتصاديا ويجعلهن عرضة للاستغلال بطرق مختلفة وغير قادرات على إعالة أنفسهن وأطفالهن في حالة وفاة الزوج أو عائل الأسرة.

بينما كنت في أحد شوارع صنعاء التقيت فتاة نازحة تبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة اكتوت بنار الحرب فانتهى بها المطاف متسولة في شوارع صنعاء. اسمها نور، من مدينة الحديدة. دفعت الحرب أسرتها إلى النزوح إلى صنعاء. توفي والدها عندما كانت في سن الثامنة، وتوفي شقيقها أيضا وهو المعيل الوحيد للأسرة في انفجار بمدينة الحديدة. اضطرت نور وأمها إلى الفرار وانتهى بهما المطاف في مدينة صنعاء دون عائل أو معين.

طفلة تنجب طفلة!

وتتفشى ظاهرة زواج الأطفال وصغار السن في الدول التي تشهد نزاعات مسلحة، حيث يضطر أولياء الأمور إلى تزويج بناتهم في سن مبكرة، تخفيفا للأعباء المالية الملقاة على كاهلهم أو بسبب انحسار الفرص الاقتصادية أو بسبب النزوح. وغالبا ما تزوج هؤلاء الفتيات إلى ذكور يبلغ فارق السن بينهم عشرات السنين.

تجبر الحروب والواقع الاجتماعي القاسي هؤلاء الفتيات على العيش في بيئة تتسم بالعنف فيضطررن إلى التعايش مع ندوب نفسية غائرة ووصلات تعذيب مستمرة ترافقهن حتى الممات في أغلب الأوقات. وتكشف الأرقام عن أن ما يقرب من تسعين مليون فتاة، أو واحدة من كل خمس فتيات على مستوى العالم يعشن في منطقة نزاع، ويكتوين بآثار مدمرة على صحتهن الجسدية والنفسية وفرصهن المستقبلية.

من بين هؤلاء ابتسام من مدينة تعز اليمنية والتي تزوجت في سن الرابعة عشرة رجلا يكبرها بعشرة أعوام. لم تكن سعيدة بذلك الزواج واضطرت إلى الانقطاع عن دراستها. أذاقها زوجها كل أصناف العذاب خلال فترة زواجهما التي لم تدم سوى سنوات معدودة. تمكنت ابتسام، بمساعدة أحد المحامين، من الفكاك من هذه الزيجة التعيسة بعد أن أنجبت طفلها الأول.

تجارب النساء في زمن الحرب لا تعد ولا تحصى. وبمعزل عن ألم فراق الأهل أو فقد أحد أفراد الأسرة أو حتى السبل التي تسلكها لكسب العيش، تتزايد أخطار العنف الجسدي والإصابات والحرمان والموت التي تواجهها النساء. لذلك تحاول اللجنة الدولية للصليب الأحمر حماية أرواح النساء بشتى الطرق الممكنة وصون كرامتهن في أثناء النزاعات المسلحة.

المصدر: اللجنة الدولية للصليب الأحمر