"القرصنة" الحوثية.. هل يعيد الاستخفاف الدولي بملف اليمن إحياء التجربة الصومالية؟

تقارير - Wednesday 22 November 2023 الساعة 07:12 am
عدن، نيوزيمن، عمار علي أحمد:

بمشاهد درامية، بثت جماعة الحوثي توثيقاً لعملية "القرصنة" التي قامت بها على سفينة الشحن البريطانية "جلاكسي ليدر" واقتيادها تحت تهديد طاقمها بالسلاح إلى سواحل الحديدة، واصفة ذلك بأنها "عملية عسكرية نوعية".

ما تصفه الجماعة الحوثية، ذراع إيران في اليمن، بأنها "عملية عسكرية نوعية"، لا يتطابق مع حقيقة ما جرى بحسب المشاهد التي بثتها، والتي تظهر عدم وجود أي مقاومة تذكر أو جهد بذله عناصر الجماعة في الاستيلاء على السفينة أمام طاقمها "المدني" الذين ظهروا وهم مذعورين ويستجيبون بكل خضوع لأوامرهم خوفاً من الأسلحة المصوبة نحوهم.

تظهر المشاهد التي بثتها الجماعة، حرصها المبالغ فيه بإخراج العملية بطريقة "درامية" من خلال التصوير المتقن ومن زوايا وكاميرات متعددة وبشكل واضح ومحترف جعلت منه فليماً دعائياً واستعراضياً لمليشياتها أكثر من كونه "عملية عسكرية نوعية" كما زعمت.

وما يثير السخرية، هو تضخيم الجماعة الحوثية المبالغ فيه لعملية الاستيلاء على سفينة تجارية "مدنية"، دون أن تعي بأن ما تتفاخر به اليوم من قرصنة وإظهارها كـ"بطولة" وإنجاز "عسكري نوعي"، كان عملاً عادياً مارسه الآلاف من القراصنة الصومال على مدى السنوات الماضية وشكل واحداً من أكبر التهديدات التي عرفتها الملاحة الدولية بالتاريخ الحديث.

عمليات القرصنة الصومالية التي ظهرت مع عام 2005م، كان بداياتها مبررة تحت هدف التصدي لسفن الصيد الدولية التي كانت تمارس عملية تجريف وحشية للثروة السمكية بالمياه الإقليمية الصومالية، إلا أن هذه الشركات استطاعت كسب رضى زعماء "القراصنة" بأموال ورشى لغض الطرف عنهم، لتعمل هذه الأموال على إغراء المجاميع المسلحة نحو امتهان "القرصنة" بشكل عملي ضد السفن التجارية، بحثاً عن أموال الفدية.

وفقاً لإحصاءات أصدرها البنك الدولي عام 2013، فقد اختُطِفت في سواحل الصومال -منذ ظهور القرصنة فيها بشكل عام 2005م نحو 149 سفينة، واحتُجـِز 3741 شخصاً من طواقم هذه السفن من 125 بلداً، وقضى بعضهم فترة احتجاز استمرت ثلاث سنوات، بينما قـُتل ما بين 82 و97 بحاراً نتيجة هجمات القراصنة الصوماليين.

تصاعد عمليات القرصة جعل من الممر البحري المؤدي من المحيط الهندي إلى المياه الصومالية واحداً من أخطر الممرات البحرية في العالم، وهو ما دفع بالدول الغربية إلى التدخل، حيث أصدر مجلس الأمن الدولي -برعاية أميركية وفرنسية- قراره رقم 1816 بتاريخ 2 يونيو 2008م، والذي أجاز للسفن الحربية الأجنبية حق الدخول في المياه الإقليمية الصومالية لأغراض قمع أعمال القرصنة والسطو المسلح في البحر "بكل الوسائل الممكنة".

وعلى ضوء القرار نشطت السفن الحربية التابعة لتحالف دولي واسع بقيادة أميركية أوروبية في مراقبة السواحل الصومالية ومواجهة جماعات القرصنة، وعلى الرغم من النجاح الكبير في الحد من عمليات القرصنة، إلا أن "القرصنة" أجبرت المجتمع الدولي إلى الالتفات إلى جذر المشكلة وأسبابها الحقيقية، وهي تجاهل محنة الصومال وحالة الصراع المستمر والتمزق الذي يعشيه منذ انهيار حكومة محمد سياد بري في عام 1991م.

وهو ما أشار إليه المبعوث الأممي الخاص للصومال أحمدو ولد عبد الله في تقريره الذي قدمه إلى مجلس الأمن الدولي منتصف عام 2009م حول نجاحات المجتمع الدولي في مكافحة القرصنة، حيث خلص إلى أن الوسيلة الأفضل "لمكافحة القرصنة هي تقوية الحكومة في الصومال".

انهيار الدولة بالصومال عام 91م أدى إلى انفصال الجزء الشمالي تحت مسمى "جمهورية أرض الصومال" التي تعيش استقراراً سياسياً وأمنياً على الرغم من عدم الاعتراف بها من قبل أي دولة بالعالم حتى اليوم، في حين تُرك الجنوب الصومالي غارقاً في الصراعات والاقتتال وشُكل أرضية لانطلاق عمليات القرصنة، التي لم تأتِ من فراغ.

فعمليات القرصنة انطلقت من واقع جنوب الصومال الذي يتقاسمه أمراء الحرب مع الجماعات الجهادية المتطرفة التي استولت على مساحات واسعة من البلاد مستفيدة من الوضع، وكانت البداية من تنظيم ما عُرف بـ"المحاكم الإسلامية" عام 2004م والتي انبثق عنها لاحقاً حركة "الشباب المجاهدين" وأعلنت نفسها كفرع لتنظيم القاعدة بالصومال.

بالتزامن مع ذلك، جرت محاولات مستمرة لتشكيل حكومة صومالية تجمع شتات القوى والمجاميع والعشائر المتناحرة، وكانت البداية عام 2001م حين تشكلت أول حكومة صومالية انبثقت من رحم مصالحة تاريخية استضافتها جيبوتي، واختير عبدالقاسم صلاد أحمد رئيساً للصومال، لكن لم تدم حكومته طويلاً، إذ أجهضت من قبل أمراء الحرب السابقين، وتشكلت حكومة أخرى عام 2004 في كينيا برئاسة عبدالله يوسف (2004-2009)، لكنه واجه هو الآخر حرباً من الجهاديين وحركة المحاكم الإسلامية، حتى استقال نهاية عام 2008م.

ليتم تشكيل حكومة جديدة في جيبوتي بزعامة شريف شيخ أحمد عام 2009 والتي مثلت بداية الاستقرار "الهش" الذي يعيشه جنوب الصومال وعاصمته مقديشو، نتيجة توجه المجتمع الدولي وجيران الصومال ولو بشكل محدود لتحجيم الصراع، وعلى الرغم من حجم التحديات الصعبة والمعارك المستمرة التي تخوضها الحكومة الصومالية لبسط نفوذها على الأرض، إلا أن تواجدها واستقرارها مثّل أحد أسباب القضاء على أعمال القرصنة إلى جانب العمليات العسكرية البحرية للتحالف الغربي.

تقدم تجربة القرصنة في الصومال، درساً مهماً في حجم الثمن الذي دفعه جيران هذا البلد والعالم وعلى رأسه الدول الغربية جراء تجاهل الصراع في أرض هذا البلد العربي والإفريقي وتحويلها إلى "حرب منسية" لعقد ونصف، دون الاكتراث بالفاتورة القاسية التي يدفعها أبناؤه موتاً بالرصاص أو بالجوع، وهو ما يبدو في طريقة لأن يتكرر في اليمن، بل وبنسخة أشد خطورة بالمقارنة مع الموقع الجغرافي المطل على البحر الأحمر غرباً وخليج عدن وبحر العرب وصولاً للمحيط الهندي مع التحكم بمضيق باب المندب أحد أهم المضايق المائية العالمية.

يضاف إلى أن المجتمع الدولي في حالة اليمن لم يقتصر دوره على تجاهل الصراع، بل كان له دور متواطئ بشكل واضح ضد القضاء عسكرياً على جماعة الحوثي التي تهدد اليوم بعمليات قرصنة أشد خطورة من ما حدث بالصومال، وتجلى هذا التواطؤ بالضغوط الكبيرة التي مارستها الدول الغربية وعلى رأسها بريطانيا وأمريكا لوقف عملية تحرير مدينة الحديدة أواخر 2018م تحت مزاعم "الإنسانية"، لتمنع تحريرها المدينة ومعها السواحل اليمنية في البحر الأحمر، والتي تحولت اليوم إلى منصات "قرصنة" لإيران وذراعها في اليمن.