• إنه لمن الملفت للنظر اجتناب الحوثيين تضمين تاريخ الأئمة الزيديين في سرديتهم السياسية وخطابهم التعبوي وبرامج التثقيف الخاصة بهم.
يذهب خطاب إلى الجماعة إلى مرحلة بعيدة من التاريخ الإسلامي العام لاستنباط معاني ورموز وصياغة محاججات. يستعيدون وقائع وحوادث وشخصيات من خارج السياق التاريخي اليمني. ينطلقون من التاريخ الإسلامي الشيعي في بداياته مع علي بن أبي طالب والحسن والحسين.
مثلاً، لا نلحظ أي اعتداد ومفاخرة بتجارب الأئمة القاسميين في قتال الأتراك، ولا المطهر شرف الدين ولا أئمة آخرين أقدم عهداً أسسوا دويلات وسلطات على عاتق مقاتلة الأيوبيين.
لا يكاد يحضر أي من هؤلاء كمثال ونموذج ينتسبون إليه أو يلمحون إلى أنهم يصدرون عن هذا التاريخ..
سيقول قائل إن السبب وراء ذلك هو رغبة الحوثيين، حالياً، في النأي بأنفسهم عن التطابق مع النظرة الشائعة التي تعتبرهم حركة ردة هدفها الإطاحة بالنظام الجمهوري وإعادة إحياء نظام الإمامة الزيدية. لكن هذا القول لا يصمد كثيراً إذا راقبنا بدقة مجمل سلوك وخطاب وتعبيرات الحوثيين خلال السنوات الثلاث الماضية، وكلها تثبت أنهم لا يفعلون الكثير لتبديد الشكوك الضخمة بشأن موقفهم من هذه القضية، بل على العكس يمارسون كل ما من شأنه مضاعفة تلك الشكوك (اللوحات واللافتات التي تنادي بالولاية تغطي جدران وشوارع صنعاء).
التفسير الأقرب للحقيقة هو الخشية الدفينة من ظهور منافسين من فروع هاشمية أكثر عراقة وأكثر قدرة على منازعة الحوثي الحق في وراثة "القيمة الرمزية" و"المعنوية" المفترضة لأي تمجيد يمكن أن يصدر بشكل صريح للأئمة الذين لهم باع في قتال ممالك أجنبية على الأراضي اليمنية خلال حقب متفرقة، لاسيما الخمسمائة عام الماضية.
• إذا أردنا وضع الحالة الحوثية في منظور تاريخي أشمل، فإن صراع الإمام يحيى مع الأتراك مطلع القرن العشرين يعتبر أحد أقرب السوابق التاريخية التي يمكن أن تساعد قليلاً في إضاءة بعض الجوانب المتعلقة بجماعة الحوثي. (مع مراعاة الفوارق الحاسمة بين النموذجين لصالح آل حميد الدين بالتأكيد. فالحوثي في ملامح كثيرة يشبه تجربة الهادي الرسي الذي أسس أول دويلة للإمامة قبل ألف عام).
وعلى الرغم من أن يحيى حميد الدين قد تزعم تمرد مسلح ضد الحكم العثماني في شمال اليمن؛ إلا أن حركته كانت تفتقر للعديد من السمات الضرورية التي تمنحها صفة "حركة تحرر وطني" على النحو الذي كان سائداً في كثير من بلدان العالم.
لقد كان الإدريسي في عسير يقاتل ضد الأتراك بسقف مطالب أرفع من سقف مطالب الإمام يحيى.
لم تتجاوز مطالب يحيى حميد الدين أكثر من أن يحظى بالاعتراف بزعامته الروحية للمذهب الزيدي مشفوعاً بقسط من السلطة على القضاء وجباية الزكاة، وأن يكون كل هذا في إطار الامبراطورية العثمانية وتحت سيادتها الاسمية وليس مستقلاً عنها.
بينما كانت مطالب الإدريسي تتعدى ذلك، إذ كان يشترط ما يشبه الحكم الذاتي والاستقلال الإداري في مناطق عسير وأن تكون له رايته الخاصة وحدوده وجيشه المحلي الخاص مع اعترافه الرمزي بسيادة الدولة العثمانية.
المعروف أن الإمام يحيى استغل سخط اليمنيين من الإدارة العثمانية وتحرك على منوال أسلافه في حقب سابقة، وكانت الإمبراطورية العثمانية مطلع القرن الماضي تمر بمراحل شيخوختها وذروة وهنها. وكانت اليمن بؤرة ساخنة من بؤر التمرد التي كلفت الأتراك خسائر ضخمة بحكم تضاريسها الصعبة وبنيتها الاجتماعية العصية على الفهم.
إلا أن تمرد الإمام يحيى انتهى في الأخير بصلح دعان الذي حقق من خلاله معظم المطالب المتمثلة في تمكينه من ممارسة بعض السلطات في نطاق ما يسمى الجغرافيا الزيدية، دون أي إشارة تذكر لفكرة استقلال وتحرر وطني. (نص الملحق السري للمعاهدة على أن تدفع الدولة العثمانية مشاهرات "مخصص" شهري للإمام يوزع منها جزءاً ويستبقي لنفسه منها ما شاء).
بالطبع، وفقاً لصلح دعان، أصبحت اليمن الشمالية مجزأة إلى ثلاث مناطق ذات سلطات مختلفة: مناطق خالصة للإمام تبدأ من حدود عمران إلى صعدة، ومناطق بالمشاركة مع الأتراك وتبدأ من عمران إلى سمارة، وثالثة للأتراك خالصة وتبدأ من سمارة إلى الراهدة إضافة إلى منطقة تهامة.
بعد ذلك بسبع سنوات غادر الأتراك اليمن. لقد كان انسحابهم في 1918 مجرد تحصيل حاصل أو نتيجة حتمية من نتائج الحرب العالمية الأولى، ولم يكن بفعل تمرد الإمام يحيى والمجاميع المسلحة الموالية له، وهو التمرد الذي رأينا كيف أنه كان قد أخمد بمعاهدة ظلت بنودها نافذة إلى أن تم استدعاء الإمام يحيى -كان مستقراً في معقله بشهارة- من قبل الوالي التركي في صنعاء وإبلاغه بعزمهم على الانسحاب وتسليمه مقاليد الأمور في مناطق نفوذهم في شمال اليمن.
أما حروب يحيى بعد خروج الأتراك فقد كانت بحسب البردوني حروب "إخضاع" وليست حروب "تحرير".
ويقول البردوني في معرض المقارنة بين مقاومة أبناء المقاطرة في تعز للأتراك، ومقاومة الإمام يحيى وأتباعه للأتراك من شهارة: "أول قلعة شمخت في وجه الجيش التركي في إبان الغزوة الثانية هي قلعة المقاطرة، وتمادت في نضالها حتى اجتثت عملاء الأتراك. وكانت أسبق من حصن شهارة في صراع الأتراك، لأن قائد نضال شهارة كان يتراوح بين المفاوضة والمقاومة، وكان يقبل الاحتلال إذا أتاح له المحتل التولي على الزكوات والأوقاف بدون فرض زيادات في الضرائب السنوية المتفق عليها، أما المقاطرة بزعامة (آل علي سعد) فانتهجت النضال بلا مساومة".
وأهمية (انتفاضة المقاطرة)، بحسب البردوني، "تكمن في أنها حركة شعبية قاومت الاحتلال التركي وتوخت أن تقاوم امتداده في سواه، فهي عمل وطني يلحق بالحركات التي طمحت عن إرادة غامضة وكانت دليلاً للحركات الهادفة وللتطور التاريخي التي تخلفه حيوية الأحداث وبُعد نظرها إلى المستقبل".