يأتي للبعض انطباع بأن المثقف أو صانع الرأي يمكن تخليقه بسهولة، ربما لا يحتاج الأمر سوى لرائحة حريق، أو سماع ذوي جلبة عريضة ليغدو هذا أو ذاك مثقفاً، وهو ما يجعله قائماً بمقام صانع الوعي، أقرب ما كان يعمل في تصنيع رجال السلطة غدا يسري على المثقفين.
وسائل الاتصال الحديثة التي سهلت إيصال الرجال المنشغلين بالثقافة بالعامة، وحتى أولئك الهواة الذين لا يملكون أي قدر من الثقافة لكنهم استطاعوا تكييف المواضيع السياسية في قوالب تتماشى مع المزاج العام صاروا على السواء برجال اجتهدوا ليقال لهم في نهاية الأمر مثقفين!
كنا في الماضي نشكك في قيمة ما يصلنا من إنتاج يضاف للجانب الفكري أو الأدبي أو الثقافي بشكل عام، كون المال والسلطة بوسعهما عمل الكثير، حالياً صار يمكن الاستغناء عن السلطة، فهناك سلطة أخرى قادرة على تخليق ما هو غير موجود ولو كانت فقاعة في الهواء.
لا نحتاج لدور نشر إلا لتبدأ المهازل ويغدو الإنتاج في النهاية سلعة للترويج، أنها وظيفة فضلى لهذه الوسائل مقارنة بوسائلها الأخرى الماجنة في الترويج للعنف والاقتتال... الخ، بذات القدر يتم تخليق التفاهات، وبشكل أيسر وبدون دور للنشر أيضاً.
لا يتطلب الأمر تفكيرا دقيقا ومدروسا، ولا رأيا رزينا ومسئولا، يكفي أن تواكب الأحداث وتتصدرها دون أن يكون حتى ما تتحدث عنه جديرا بالتحدث عنه، ربما لا يحق وضع المواضيع المطروحة للنقاشات والجدالات الكثيرة للتقييم وفقاً لأهوائنا الشخصية، لكن أن نراها تنحذر نحو التفاهة يوماً عن آخر، إنه لأمر مدعاة للتأمل.
الأمر معقود على سير المثقفين وصناع الرأي، إن كانوا بالفعل يدركون للخط الذي يسيرون عليه لا مشكلة إذاً؛ لكن إن كانوا يحلقون متفاخرين باستعراضاتهم في تلك المواضيع لمشكلة.
الذات الجمعية التي من المفترض بقاؤها متسقة بهوية وصورة نوعاً ما واحدة وواضحة وخاصة مع انعدام وجود هوية سياسية جامعة لم تعد واضحة ولا معروفة ولا يمكننا التأكد من وجودها لنعرفها، فغياب الدولة يترك المجتمع هشاً بلا هوية أو ذات، وحتى وإن وجدت انطباعات وآراء واصطفافات لكنها لا تغني عن الأصل ولا تستمر بذات قوة اندفاعها، ربما مؤخراً شهدنا بعض معالم لمحاولات تصنيع هوية بديلة، كانت "الأقيال" إحدى أهم تلك المظاهر، فظهور تلك الحاجة لا يأتي من عافية في المجتمع بقدر ما هو تعبير عن غياب لهوية شاملة وجامعة للمجتمع بأسره وشعور بالتجريف أمام الظن أن هناك هوية نقيضة تحاول الانقضاض على المجتمع، أتينا على هذا المثال لتوضيح غياب الهوية والذات الوطنية التي تجعل المجتمع ينشغل بكل شيء، أو بمعنى أصح يشغل نفسه بكل شيء، ليس لنشير لأي أمر آخر.
ظهور تلك المساحات الصغيرة التي ينشغل بها المثقفون وتموضع المنطلقات التي يتحركون منها ومحدودية المواضيع التي يتطرقون إليها، هي خليقة تلك المساحات الصغيرة التي يتحدثون لأجلها وإليها، سواء أكانت متمثلة بجماعة أم طرف أو شخوص.
ربما يظن البعض أن هناك من يحاول صرف الناس عن الاهتمامات الجادة والقضايا العامة، ربما.. لكن لا يمكن ترك المواضيع عرضة لحس المؤامرة، فإن عدم تقدير الظرف الزمني الذي تمر به البلاد والمعاناة التي يعاني منها المجتمع، وعدم الإحساس بالقضايا الهامة على المستوى الوطني وتمس المجتمع بأسره لا يأتي إلا نتيجة انغشاشنا بتلك الطبقة المثقفة والتي ظهرت في فترات ما صانعة للرأي ولن نقول وعياً.
لأنه من غير المعقول أن نعزو فشل المثقف في الصمود في أهم المعتركات ونرمي الأسباب على الظروف، إذا كان المثقف فقد قدرته على أن يتجلّد ويتجلى في هذه المرحلة المهمة من حياة هذه البلاد فمتى على البلاد أن تعتمد عليه؟!
في السلم والوضع الهادئ لن تحتاج لخبير، فبوسع أي رجل أن يغدو صالحاً ومفيداً، عندما يكون البحر هادئاً لست بحاجة لبحّار بارع ليحافظ على اتزان القارب، أنت تكون في أمسّ الحاجة له وقت العاصفة، ونحن في هذه العاصفة نحتاج لكل ربان وبحارة بارعين، ولكن الجميع تحولوا إلى مجرد مجموعة من اللاهين الذاهبين في نزهة في قلب هذه العاصفة.