د. عبد العزيز المقالح

د. عبد العزيز المقالح

(ذاتية) العقاد وتجاوز مفهوم التواضع

Thursday 18 June 2020 الساعة 08:30 am

كتب طه حسين سيرته الذاتية تحت عنوان (الأيام)، وكتب أحمد أمين سيرته أيضاً تحت عنوان (حياتي)، وآخرون كثيرون من كبار الأدباء والمفكرين كتبوا سيرهم الذاتية تحت عناوين في هذا المستوى من التواضع، لكن العقاد وحده بما تميز به من حرص على المخالفة، وتجاوز مفهوم التواضع كتب سيرته تحت عنوان (أنا)، وفي هذا العنوان ما يصدم القارئ، ويؤكد حجم الذاتية المرتفعة لدى هذا الكاتب الكبير، الذي لم يحصل سوى على الابتدائية، لكنه بمعارفه وثقافته الواسعة، تحدى جميع أصحاب الألقاب الأكاديمية.

رأيت العقاد ثلاث مرات، الأولى في منزله أثناء لقائه الأسبوعي، الذي كان يتم كل يوم جمعة، ويحضره عدد من الكتّاب والأدباء والصحافيين، وكان كما تصورته تماماً ديكتاتوراً يمسك زمام الحديث ولا يترك للحاضرين سوى القليل جداً مما يريدون قوله أو الإطالة فيه. ورأيته في المرة الثانية وهو واقف في مدخل مكتبة الأنجلو في شارع ثروت في القاهرة، حيث كان يتردد على هذه المكتبة أكثر من مرة، ليقتني أحدث ما يأتي إليها من كتب. أما المرة الثالثة فقد رأيته في المجلس الأعلى للثقافة، حيث كان واحداً من أعمدة هذا المجلس، وكنت يومئذٍ في زيارة للصديق المرحوم علي أحمد باكثير الذي كان يعمل سكرتيراً لهذا المجلس. وفي المرات الثلاث التي رأيت فيها العقاد كان رافع الرأس يسير شامخاً وكأنه يتحدى كل من يراه.

وفي كتابه، أو بالأصح في سيرته الذاتية هذه، تتجلى كل هذه المعاني كأوضح ما تكون. وقد بدأ العقاد كتابه على النحو الآتي: مستفيداً من كلمة الكاتب الأمريكي (وندل هولمز) يقول فيها: (إن الإنسان - كل إنسان بلا استثناء- إنما هو ثلاثة أشخاص في صورة واحدة. الإنسان كما خلقه الله.. والإنسان كما يراه الناس.. والإنسان كما يرى نفسه). فَمَن من هؤلاء الأشخاص الثلاثة هو المقصود بعباس العقاد؟! ومن قال إني أعرف هؤلاء الأشخاص الثلاثة معرفة تحقيق أو معرفة تقريب؟!.. من قال إنني أعرف عباس العقاد كما خلقه الله؟

ومن قال إنني أعرف العقاد كما أراه، وأنا أراه على حال (واحدة كل يوم)؟ هكذا بدأ العقاد كتابه وهكذا يمضي باحثاً عن نفسه، ومعبراً عنها في صور عديدة، لكنها لا تقلل من مكانته ومعرفته، ولا من حرصه على أن يبدو قوياً متجاوزاً لعلها نقائصه، حريصاً على ألا يبدو ضعيفاً أو مهزوماً تجاه الصعوبات، وهو يعترف بأنه يخالف المعنى المتعارف عليه في التواضع، أو كما يقول إنه غير مفرط في الرقة واللين، وإن ذلك جعله أحرص ما يكون على المحافظة على كرامته بين الأدباء من أقرانه ومنافسيه.

وقد توسع العقاد بعد ذلك في كتابه في الحديث عن حياة أبيه وأخواله وأقاربه، وعن المكان الذي نشأ فيه وهو مدينة أسوان، التي امتدحها بشعره ونثره، كما تحدث عن طفولته وتعليمه المحدود، وحرصه على شراء الكتب بالقروش القليلة التي كان يتلقاها من والده. وتوسع كذلك في الحديث عن ذكريات طفولته وأساتذته، وعن بداية كتابته والأقلام التي كان يكتب بها وهو يشير بالتفصيل إلى هواية القراءة واختياره العزلة مع الكتب. ومن أهم ذكرياته في كتابه هذا، الحديث عن أصدقائه وأعدائه وعن مرحلة السجن، الذي دخله بعد اتهامه بالعيب في الذات الملكية.

وفي كتاب (أنا) تطرق إلى الحديث عن فلسفته في الحياة وفلسفته في الحب، وأشار كذلك بتوسع إلى ما سمّاه بمعرفته العالم وهو في مكانه لا يتحرك، وذلك من خلال القراءة والتعرف إلى خصائص الشعوب وأبنائها وأساليب حياتها، وهو الذي لم يبرح القاهرة إلاَّ مرة واحدة إلى السودان خوفاً من النازي، الذي كان قد اقترب من القاهرة، لا سيما أنه كان قد كتب عن (هتلر) كتاباً فضح فيه عنصريته وديكتاتوريته ولم يتردد في إعلان كراهيته لفصل الصيف وحره الشديد، وإصراره على ألا يبارح منزله إلى شواطئ مصر، كما يفعل غيره من الأدباء أمثال نجيب محفوظ، ولا يغادر مصر إلى جنوبي فرنسا وإيطاليا، كما كان يفعل طه حسين كل عام؛ لذلك كان الصيف ثقيلاً عليه، فكانت الكتابة سلْوَته وعزاءه.

وفي ظل هذه العزلة أنتج عشرات الكتب وأبدع دواوينه الشعرية العشرة، وفي ذلك المناخ وتحت ظروف تلك العزلة، كتب العقاد عبقرياته ودراساته الإسلامية التي ملأت فراغاً في الحياة الأدبية والتاريخية، ولم يكن كتاب (أنا) وحده هو الوحيد الذي تضمن السيرة الذاتية لهذا الكاتب الكبير، فقد نشر كتباً أخرى منها كتابه (في بيتي) الذي يحكي فيه عن مكتبته، وما تتسع له من كتب ومعارف علمية وأدبية وفنية، وكيف كانت هي ثروته الوحيدة، التي يعتز بها، ويرى أنها أفضل من كل ما تركه أغنياء العالم من ثروات مادية.

هذا هو العقاد في سيرته الذاتية موجزة ومنتزعة من كتابه (أنا) بعنوانه المثير الذي يفضح التواضع الزائف، ويكشف عن ذاتية المبدع المفكر، من خلال أفكاره واعترافاته، وتوسعه في تناول الجوانب الخفية في حياته كما لا يعرفها إلّا هو.


لقد رحل الكاتب الكبير عن هذا العالم بجسده، وبقي بآثاره وكتبه وإبداعاته وترجماته عن الإنجليزية، التي أجادها وأحسن في كل ما ترجم منها شعراً ونثراً، ولا أشك في أن التاريخ قد أنصفه عندما جعله واحداً من بين الرواد القلائل، الذين تتردد أسماؤهم على كل لسان وفي كل الأقطار العربية دون استثناء.

وهنا فقرات من بداية الفصل الذي تحدث فيه عن نفسه فقال: (وهل يعرف الإنسان نفسه؟! كلا، بغير تردد، فلو أنه عرف نفسه لعرف كل شيء في الأرض والسماء وفي الجهر والخفاء، ولم يُكَتب ذلك لأحد من أبناء الفناء.. إنما يعرف الإنسان نفسه بمعنى واحد، وهو أن يعرف حدود نفسه، حيث تلتقي بما حولها من الأحياء أو من الأشياء. والفرق عظيم بين معرفة النفس ومعرفة حدودها، لأننا نستطيع أن نعرف حدود كل مكان، ولكن لا يلزم من ذلك أن نعرف خباياه وخصائص أرضه وهوائه وتاريخ ماضيه، ولو قسنا كل شبر في حدوده، والأحرى أن يقال إن الإنسان يعرف الفواصل بينه وبين غيره، فيعرف مداها ولا يتعداه. وقد عرفت أنني أثق بنفسي وأعتمد عليها، ولكني أعتقد أنني وثقت بها عن طريق النفي قبل وثوقي بها عن طريق الثبوت. فقد كنت في بادئ الأمر أحسب أنني أنا المخطئ وحدي، وأن جميع الناس على صواب..! هناك اختلاف لا شك فيه، فمن المخطئ ومن المصيب؟.. أنا المخطئ إذن لا جدال).

في هذه الفقرة يتبين الموقف الحقيقي للعقاد، الذي حاول أن يرفع من ذاتيته، لكنه في الوقت نفسه يعترف بقصوره عن معرفة هذه الذات معرفة ثبوتية تامة، وهذا هو شأن المفكر المنصف، الذي لا يتجاوز الحقيقة حتى وهو يُعلي من ذاته ويرفع من شأن مكانته في الحياة.

ومن لم يقرأ كتاب (أنا) للعقاد قراءة كاملة، مكتفياً بالعنوان أو ببعض الفقرات، فإنه سوف يظلم المفكر الكبير، ويظنه مبالغاً في الإعلاء من شأن نفسه، بما لا يتفق مع الحقيقة وواقع الحال. 

*نُشر في مجلة الشارقة الثقافية