في ظل التوجهات والتحولات الاجتماعية الجذرية التي تعيشها السعودية، اندلعت عاصفة الحزم في الـ26 من مارس (آذار) 2015 بأهداف محددة (عودة الحكومة الشرعية إلى صنعاء وتدمير الأسلحة البعيدة المدى وتقليص النفوذ الإيراني وتأمين الحدود الجنوبية للمملكة).
لكننا اليوم نواجه الأسئلة التي يبحث اليمنيون والإقليم والعالم عن إجابات ومخارج محددة لها: كيف يمكن وقف الحرب؟ ومتي يمكن ذلك؟ ومن الذي يمتلك قرار الحرب أو السلام؟
بالعودة إلى أهداف الحرب، صارت القناعة أنها غير قابلة للتحقيق إلا باتفاق شامل لمعالجة جذرية لأسبابها، ذلك أن الذين خططوا لها منذ بداياتها لم يضعوا في تصوراتهم احتمالات الفشل، ولم يهيئوا لأصحاب القرار البدائل المحتملة.
وما عدا النجاح الذي حققته الحملة العسكرية بإخراج ميليشيات الحوثيين من عدن ومعظم الجنوب، فإن الحروب التي تلتها تدخل في سياق المعارك والمناوشات والكر والفر في مناطق محددة، لا تؤثر في المشهد العام، ولا تبلغ حد تغيير موازين القوى في الوضع العام.
قبل أسابيع ابتهج كثيرون ووصفوا الأحداث التي وقعت في مديرية الزاهر بمحافظة البيضاء بأنها ستُحدث تحولاً في مسار الحرب ضد الحوثيين، وأنها تمثل بداية النهاية لوجودهم في المحافظة، وبشروا الناس أنها تشكل تحولاً عسكرياً طال انتظارهم له، ولكن الواقع برهن أن القضايا الكبرى التي تتم معالجتها ببيانات الحشد النفسي الكاذب والعواطف والمشاعر والكلمات تحدث ردود فعل سلبية، لأنها لا تعترف بأن تغيير الأوضاع فعلياً لا يحدث بتزييف الواقع، وإنما بالفعل القوي المتواصل على الأرض.
أخيراً قضيت أياماً في الرياض، التقيت خلالها سفراء غربيين والمبعوث الأميركي لليمن وعدداً من المسؤولين اليمنيين، وشرحت لهم ما أراه حلاً ومخرجاً، وهو لا يختلف عن موقفي المعلن منذ 2015 تجاه الحرب مع بداياتها، ومن الطبيعي أن الجميع صار يستدعي أقصى درجات التفكير بحثاً عن وسيلة لإيقافها.
في واقع الأمر، فإن عثرات مسار السلام لا تختلف كثيراً عن صعوبات إنهاء الحرب التي كان، من وجهة نظري، محتم وجوب توقفها بعد إنجاز المهمة العسكرية في عدن شهر يوليو (تموز) 2015، ثم البدء بالتركيز على خلق نموذج للدولة التي يريدها كل مواطن في المناطق التي صارت حينها تحت سلطة الحكومة، ولكن الذي حدث بعدها هو أن كل المحاولات باءت بالفشل، سواء لتعزيز الحسم العسكري أو التوصل إلى اتفاق لوقف للحرب.
وفي الوقت نفسه، فشلت حكومات الرئيس هادي المتعاقبة في تقديم ما يشفع لها للحصول على الدعم الداخلي، مكتفية بالسند الخارجي.
صار جلياً أن الجميع يواجه إحباطاً وعدم وضوح الرؤية في كيفية التوصل إلى خريطة طريق يقتنع بها المتحاربون أو قسرهم على القبول بها.
وفي المقابل فإن أغلب اليمنيين الذين يعيشون في الداخل لم يعد همهم من ينتصر في هذه الحرب، بل يبحثون عن طرف يستطيع توفير متطلباتهم اليومية والخدمات الأساسية، وما تسبب في تعاظم هذا الشعور هو عجز الحكومات عن القيام بمسـؤولياتها الأخلاقية والدستورية، وعدم استطاعتها انتزاع سلطاتها التي صارت موزعة بين جماعات مسلحة في الشمال والمجلس الانتقالي في الجنوب.
واليوم نحن نقف أمام مشهد يعيش فيه ما يزيد على 25 مليون مواطن يبحثون عن سلطة حاكمة أياً كانت هويتها وتوجهاتها، تهتم بأحوالهم وحاجاتهم الأساسية، وتضاءلت اختياراتهم وأصبحت محصورة بين حكومة شرعية غائبة فشلت في تحقيق أمانيهم، وسلطة اغتصبت الحكم ساعية إلى تحويل المنطقة الجغرافية التي تتحكم فيها إلى ساحة حروب دائمة، وتأسيس نموذج فكري مذهبي محدد.
وهناك في الجنوب، سلطة المجلس الانتقالي الذي يسيطر تدريجياً على مؤسسات الحكومة لكنه يقف عاجزاً من استخدامها لتقديم الخدمات للناس، ثم هناك قوى مسلحة تسيطر على رقع جغرافية صغيرة متناثرة تعيش خارج كل سلطة للحكومة الشرعية ولا تتبعها.
هذه القوى التي تتقاسم المشهد اليمني لا يمتلك أي منها الموارد الكافية للسيطرة على مجمل البلاد، وتتصارع للحصول على مزيد من الأموال لمواصلة حروبها لتحقيق أهدافها المتناقضة، وكلها ترفع شعارات تبرر عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه المواطنين المحاصرين.
الحكومة الشرعية تبرر فشلها بأنها غير قادرة على العودة للمناطق التي من المفترض أنها تخضع لسلطاتها، وتقول إن الموارد التي تحصل عليها غير كافية، إضافة إلى الفساد والتضخم الوظيفي والغياب المستمر، وهي لم تتمكن من السيطرة على مداخيل الموانئ والغاز والبترول الذي تنتجه المناطق التي توجد فيها نظرياً.
وإذا نظرنا إلى الحوثيين سنجد أنهم لا يقومون بأي من واجبات السلطة أياً كان تعريفنا لها بمبررات "العدوان" و"الحصار"، وأغلب ما يقع تحت أيديهم يتم توجيهه للمجهود الحربي الذي يستهلك بطبيعة الحال أغلب الموارد.
كما أن لديهم القدرة على استمرار فرض عدد كبير من الضرائب والجبايات.
وإذا نظرنا إلى الطرف الثالث، أقصد المجلس الانتقالي الجنوبي المعترف به إقليمياً ودولياً، فهو مستمر في قضم سلطات الحكومة الإدارية، لكنه في المقابل لا يلتزم بأي من الواجبات تجاه الناس، مكتفياً بتهييج الشارع الجنوبي والاستمرار برفع شعار استعادة الدولة، لكنه في الواقع غير قادر على أن يبرهن على قدرته إدارة المناطق التي يدعي أنها صارت تدين له بالولاء.
هذا المشهد المضطرب يجعل من الصعب التفكير في حلول مرضية للجميع، ولكن الثابت أن 25 مليون يمني يدفعون ثمن هذه الحرب وحدهم، وعلى الجميع وطنياً وإقليمياً ودولياً التركيز على إنقاذهم من تجار هذه الحرب والمستفيدين منها، والتي صار استمرارها وسيلة مريحة للإثراء وحماية للوظائف التي استولوا عليها.
كانت رسالتي التي أبلغتها كل من التقيته هي أن الإفراج عن المسجونين من دون قيد أو شرط، وكذا رفع الحصار عن تعز والمدن اليمنية والموانئ والمطارات كافة، قضايا إنسانية لا يجوز أخلاقياً ربطها بأي قضية أخرى، واقترحت أن تذهب جميع الموارد التي يمكن تحصيلها من كل المنافذ إلى بنك مركزي كفوء محايد، لتنفق الأموال على صرف الرواتب وتمويل الخدمات الأساسية.
اليمنيون داخل اليمن وأغلب من يعيشون خارجها، فقدوا كل أمل في أن ينتزعهم تجار الحرب والمنظرون لها ممن يعيشون بحبوحة العيش خارجها، من مآسيهم وأحزانهم وجوعهم وأمراضهم.
*نقلا عن اندبندنت عربية