أثار الانهيار المتسارع لعواصم الأقاليم الأفغانية وصولاً إلى كابول تساؤلات كثيرة، إثر إعلان الولايات المتحدة سحب قواتها بعد 20 عاماً من وعد الرئيس السابق جورج بوش بالقضاء على حركة "طالبان"، التي كانت هي نفسها نتاج تعاون قادته الولايات المتحدة لمحاربة الجيش السوفياتي في ذلك البلد.
تدور اليوم في بال الكثيرين تساؤلات عن استمرار الحرب في اليمن والخلاصة المستفادة من الدرس الأفغاني:
لماذا تهاوى الجيش الأفغاني ولم يقاوم ميليشيات حركة "طالبان"؟ وأين اختفت كل القيادات التي كانت تظهر بكامل أناقتها أمام شاشات التلفزيون، بينما قادة "طالبان" يتحركون على دراجات نارية وهم يرتدون اللباس الأفغاني التقليدي البسيط؟
كيف تخلت الولايات المتحدة عن بلد أنفقت فيه أكثر من 80 ملياراً لتسليح جيشه وتدريبه؟
الجواب البسيط الذي يتبادر إلى الذهن من دون زيف:
الفساد، وأن الدعم الخارجي عامل مساعد فقط ولا يجب التعويل عليه.
لم يكن تعامل القادة الأفغان ممثلي الحكومة "الشرعية" مع الأوضاع يدل على قربهم من الواقع، وسيطر الفساد على "النخبة" السياسية التي انشغلت بترف الحياة وسط مجتمع يعاني الفقر والمرض.
في المقابل، كانت حركة "طالبان" تعيش بين الناس في الأرياف والمناطق النائية البعيدة عن أعين الجيش الأميركي والحكومة "الشرعية"، حيث كانت الحركة تمارس السلطة كما تفهمها وتنشر فكرها وأسلوب الحياة في تلك المساحات الجغرافية.
من الدروس الأفغانية أن الاعتماد الكامل على السند الخارجي يمكن له إمداد أي سلطة بجزء أو حتى كامل الدعم المادي والمعنوي المطلوب، لكن التعويل عليه لوحده يصبح استسلاماً وإعلاناً صريحاً عن تبعية كاملة تضعف الرابطة الوطنية ويجعل تلك السلطة مجرد أداة لا يحترمها الناس.
للتذكير فإن الجيش المصري انسحب من اليمن بعد هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967، لكن الجيش الوطني اليمني وقيادات البلاد لم تستسلم، بل على النقيض من ذلك فقد تماسكت الجبهة الداخلية على الرغم من بعض الأحداث المريرة التي جرت، وتمكنوا من هزيمة قوات الملكيين الذين كانوا على وشك الإطباق على العاصمة صنعاء فيما يعرف بحصار الـ70 يوماً.
في سبتمبر (أيلول) 1966 قررت حكومة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر القبض على عدد من القيادات الوطنية وألقت بهم في زنزانات انفرادية بالسجن الحربي.
لم يُحقَّق معهم ولم يعرفوا السبب من هذا القرار العجيب.. لكن المؤكد أن عبد الناصر كان غاضباً لأن هذه القيادات اعترضت على استلاب القرار السيادي من اليمنيين.
هذا على الرغم من أنهم جميعاً كانوا ممتنين للتدخل العسكري المصري لمساندة الجمهورية الناشئة.
لقد أوردت هذا لأني أعلم أن كل القيادات اليمنية التي تعيش خارج اليمن تعبر عن عجزها في الداخل والخارج، وفي الوقت ذاته لا تعترف بعدم قدرتها على الإنجاز.
ولم يعد المواطن البسيط يجد في هذه الشرعية ولا في سلطة صنعاء ملجأ من الأحزان والآلام والأمراض التي تفتك به.
كما أن الانقطاع الطويل بين السلطة "الشرعية" المعترف بها دولياً والمواطنين في الداخل والخارج أوجد حالاً من النفور عند الناس، الذين لا يرون أنها تستحق منهم أن يدعموها ويدافعوا عنها، وترك ذلك آثاراً سلبية ويضعف مصداقيتها، إذ لم تتمكن من خلق نموذج نزيه مقنع، وصارت الاختيارات المتاحة هي بين سيئ وأقل سوءاً.
ثم هناك قضية عصية على الفهم وتحتاج إلى معالجة عاجلة سواء كان القرار سلماً أو حرباً، وهي انسداد قنوات التواصل الدائم بين مؤسسات "الشرعية" وهي مسألة تثير التعجب، لأنهم يعيشون في الرياض في مربع جغرافي واحد يتيح لهم الاجتماع اليومي وتبادل الرأي، مع أن المطلوب هو عودتهم من دون تلكؤ بمبررات واهية.
أدى استمرار هذا الحال إلى تآكل مشروعية السلطة التي يعترف بها العالم، وسيفاقم من البرود الذي يعتري العلاقات بينها وبين قيادة التحالف التي تشعر بالإحباط بسبب الفساد الذي يتحدث عنه الجميع صراحة، وانعدام المحاسبة والرقابة السابقة واللاحقة الذي لم يعد سراً.
وما يجب أن يعلمه كل يمني أن الحرب والإنفاق عليها قد عرقلا الكثير من مشاريع التنمية في عواصم دول التحالف، وهذا أمر لا يمكن أن يستمر طويلاً من دون التوصل إلى تسوية سياسية.
لقد دفعت الولايات المتحدة مئات المليارات من الدولارات وأكثر من ستة آلاف قتيل لمحاربة والقضاء على حركة "طالبان"، لكنها في النهاية فشلت، فقررت أن ذلك لا ولن يجبرها على الإبقاء على قواتها هناك، وأن الأمر مسؤولية الأفغان أنفسهم، وهي نتيجة طبيعية لفشل السلطة الأفغانية "الشرعية" التي ضرب الفساد كل مفاصلها، واكتفى ممثلوها بترتيب أوضاعهم الخاصة، في وقت كانت "طالبان" تتمدد في مناطق نائية وتحصد الضرائب المحلية، ولم تترك حتى المشاركة في حصد الأرباح من زراعة الأفيون بغض النظر عن تعارض الأمر مع الشريعة الإسلامية، إلا ربما من باب "الضرورات تبيح المحظورات".
لقد سقطت كابول من دون مقاومة كما سقطت صنعاء في 21 سبتمبر 2014، لأن "الشرعية" حينها لم تدافع عن عمران قبلها فأدرك الجميع أن الاستسلام هو الخيار الوحيد الذي يقفون أمامه.
خلاصة الدرس الأفغاني والبحث في نقاط التشابه التي أدت إلى الانهيار المخيف، متذكرين مشهد المواطنين الأفغان الذين حلقوا في السماء متشبثين بجسم الطائرات محاولين السفر معها هي أن السلطة مهما كانت شرعيتها لا يكفيها الاعتراف الخارجي من دون أن تمتلك شعبية وطنية تناضل معها وإلى جانبها.
*نقلا عن اندبندنت عربية