الحوثيون بين شماعة "إسرائيل" وأزمات الداخل.. دعاية للهروب من الانهيار

السياسية - منذ 3 ساعات و 42 دقيقة
صنعاء, نيوزيمن، خاص:

تعصف الأزمات الاقتصادية والإنسانية مناطق سيطرة ميليشيا الحوثي الإيرانية، من تفاقم معدلات الجوع والفقر، وارتفاع أسعار المواد الغذائية والمشتقات النفطية، إلى انعدام المرتبات والخدمات الأساسية. حيث تسعى الجماعة إلى الهروب من هذا الواقع المرير عبر افتعال معارك جانبية وتوظيف الهجمات الإسرائيلية التي تطال مواقعها العسكرية وقياداتها. وفي مقابل العجز عن معالجة أزمات الداخل، تسارع الميليشيات إلى شن وتبني هجمات عشوائية بطائرات مسيّرة وصواريخ، لا طائل منها سوى الاستعراض الإعلامي ومحاولة تسويق نفسها كلاعب إقليمي و"ضحية" في معركة كبرى.

ويؤكد مراقبون أن الحوثيين، الذين يواجهون غضبًا شعبيًا متصاعدًا بسبب سياساتهم الجبائية ونهبهم المنهجي لموارد الدولة، يستغلون "شماعة إسرائيل" لتأجيل استحقاقات الداخل، وشد العصب الطائفي، وصرف الأنظار عن الانهيار المعيشي والخدمات المنهارة، في وقت بات فيه ملايين اليمنيين على حافة المجاعة.

أزمات داخلية خانقة

لا تعكس الأوضاع المعيشية في مناطق سيطرة الحوثيين مجرد معاناة اعتيادية، بل تنذر بكارثة إنسانية غير مسبوقة. تقرير أممي حديث كشف أن نحو 15 مليون شخص في اليمن مهددون بالانزلاق إلى مراحل حرجة من انعدام الأمن الغذائي خلال الأشهر المقبلة، منهم 11 مليون يعيشون في مناطق سيطرة الحوثيين، أي ما يقارب 36% من سكان تلك المناطق. هذا الرقم وحده كافٍ لتوضيح حجم الكارثة التي تتسع يومًا بعد آخر.

البيانات الأممية أظهرت أن أسعار المواد الغذائية في مناطق الحوثيين ارتفعت بنسبة 205% مقارنة بالأسعار العالمية، أي ما يعادل 85% فوق الحد الحرج، وهو ما يجعل توفير السلع الأساسية مثل الأرز وزيت الطهي مهمة شبه مستحيلة للأسر محدودة الدخل، خصوصًا في محافظات مثل حجة والجوف والمحويت حيث تتركز أكبر الفجوات الغذائية.

التقرير نفسه، الصادر في أغسطس 2025 عن منظومة الرصد المشترك (برنامج الأغذية العالمي، الفاو، اليونيسف)، حذّر من تصاعد خطير في معدلات سوء التغذية، إذ سجّلت 72% من المؤشرات مستويات مرتفعة ضمن المستويين الرابع والخامس، ما يعكس الترابط الوثيق بين الجوع الحاد وتفشي حالات سوء التغذية. بل إن المؤشرات الميدانية رصدت خلال شهر يوليو وحده 372 إنذارًا حرجًا و334 إنذارًا مرتفع المخاطر، تركزت بالدرجة الأولى في الواردات الغذائية وسعر الصرف وواردات الوقود.

وبينما يواجه 66% من الأسر في مناطق الحوثيين استهلاكًا غذائيًا غير كافٍ، تعيش 40% من تلك الأسر على استهلاك غذائي سيئ يهدد الصحة العامة للأجيال المقبلة، خاصة في محافظات مثل البيضاء وعمران وريمة. هذه الأرقام لا تعني مجرد نسب جامدة، بل تترجم إلى ملايين الأسر التي تضطر للاستدانة أو بيع ممتلكاتها البسيطة لتأمين لقمة العيش، في وقت تواصل فيه الميليشيا تحميل المواطنين أعباءً إضافية عبر الجبايات والإتاوات التي تموّل بها احتفالاتها الطائفية.

ويحذر الخبراء من أن استمرار هذه المؤشرات، في ظل الحرب وغياب الرواتب وقيود وصول المساعدات الإنسانية، يضع اليمن على شفا مجاعة واسعة النطاق قد تكون الأخطر عالميًا في العصر الحديث. وهو ما يكشف التناقض الحاد بين خطاب الحوثيين الدعائي الذي يتحدث عن مواجهة "إسرائيل وأميركا" وبين الواقع الذي يعيشه ملايين اليمنيين الذين يكافحون يوميًا من أجل البقاء.

أموال الجبايات للاحتفالات

في الوقت الذي يغرق فيه ملايين اليمنيين في أزمات معيشية خانقة، ويكابدون الجوع وانقطاع الرواتب والخدمات الأساسية، تمضي ميليشيا الحوثي في إنفاق أموال طائلة على مظاهر احتفالية استعراضية مرتبطة بالمناسبات الطائفية، وعلى رأسها المولد النبوي. هذه الاحتفالات التي تُقام في شوارع صنعاء وغيرها من المحافظات الخاضعة لسيطرتهم، تحولت إلى مشاهد صادمة للمواطنين الذين يرون فيها إهدارًا فاضحًا للموارد المنهوبة، وتجاهلًا صارخًا لمعاناتهم اليومية.

يقول المواطن محمد النهاري من أبناء مديرية السبعين: "الأموال التي تُصرف على الاحتفالات النارية والفعاليات الدعائية كان الأجدر أن تُوجه لصرف رواتب الموظفين المقطوعة منذ عشرة أعوام، أو لتوفير الغذاء والدواء للفئات الأشد ضعفًا. الناس تموت جوعًا وتأكل من براميل النفايات، بينما تصرف المليارات على الاحتفالات والألعاب النارية"، وهو ما يلخص الفجوة الهائلة بين أولويات الحوثيين واحتياجات الناس.

هذه المظاهر المبالغ فيها لا تنفصل عن حملات الجباية المكثفة التي تفرضها الميليشيا بشكل شبه يومي على المواطنين والتجار تحت عناوين متعددة مثل "المجهود الحربي" و*"دعم المناسبات الدينية"*. تلك الرسوم، إلى جانب الإتاوات اليومية المفروضة على الأسواق والمحلات، شكلت عبئًا خانقًا على الأسر، في وقت لم يعد المواطن يجد قوت يومه. والنتيجة المباشرة لذلك كانت ارتفاع أسعار السلع الأساسية بصورة كبيرة، لتضاعف من معاناة الناس وتقلّص قدرتهم الشرائية إلى حدودها الدنيا.

التجار بدورهم يؤكدون أن هذه الممارسات أنهكت النشاط التجاري، وأجبرت كثيرين على تقليص أعمالهم أو رفع أسعار منتجاتهم لتعويض ما يُفرض عليهم من أعباء مالية إضافية. وأوضح أحد تجار صنعاء أن "سياسات الجبايات الحوثية لم تترك أي مساحة للنشاط التجاري الحر، بل حولته إلى وسيلة تمويل قسري لمظاهر استعراضية، ما انعكس بشكل مباشر على معيشة المواطنين الذين أصبحوا عاجزين عن شراء حتى أبسط الاحتياجات اليومية".

بحسب مراقبين، فإن إصرار الحوثيين على تبديد موارد الدولة المنهوبة على مظاهر شكلية ودعائية، مقابل إهمال صرف الرواتب، وتعطيل الخدمات الأساسية، يكشف أن الأولوية لديهم ليست في معالجة الأزمة الإنسانية المتفاقمة، وإنما في تعزيز نفوذهم السياسي والعقائدي. هذه السياسات لا تؤدي فقط إلى تعميق الأزمة الاقتصادية والمعيشية، بل تكرّس فجوة واسعة بين الحوثيين والمجتمع، وتزيد من حالة الاحتقان الشعبي في مناطق سيطرتهم، حيث يرى المواطنون أن قوتهم اليومي صار وقودًا لمهرجانات طائفية لا تسمن ولا تغني من جوع.

شماعة إسرائيل.. غطاء للهروب من الداخل

في الوقت الذي تتفاقم فيه الأزمات المعيشية داخل مناطق سيطرة الحوثيين ــ من مجاعة وارتفاع أسعار المواد الغذائية والمشتقات النفطية، إلى انقطاع المرتبات وانهيار الخدمات الأساسية ــ تلجأ الجماعة إلى شماعة إسرائيل كوسيلة للهروب من هذه الاستحقاقات. فكل ضربة جوية إسرائيلية لموقع عسكري حوثي أو قيادي بارز، تتحول في خطاب الميليشيا إلى مادة دعائية تزعم "الانتصار" و"الصمود"، في حين أنّ الواقع يكشف عكس ذلك تمامًا: المزيد من الانهيارات الاقتصادية والإنسانية التي يدفع ثمنها المواطن اليمني.

المحلل السياسي خالد سلمان قدّم توصيفًا صارخًا لهذا السلوك، إذ قال إن طائرة مسيّرة حوثية وصلت إلى مطار في جنوب إسرائيل وعطّلت حركة السفر لساعات، لكن النتيجة لم تتأخر؛ فجاء الرد الإسرائيلي سريعًا وموجعًا بتدمير قدرات حوثية عسكرية وبنية تحتية هشة أصلاً. ومع ذلك، لم تتوقف الجماعة لمراجعة "الحصاد المر"، بل اندفعت إلى تصعيد غبي يجلب معها تصعيدًا إسرائيليًا أعنف.

يرى سلمان أن إسرائيل بالنسبة للحوثيين ليست عدوًا حقيقيًا بقدر ما هي "حائط اختباء" يلتفون خلفه لتأجيل مواجهة الاستحقاقات الحياتية كسلطة أمر واقع. فبدلًا من توفير المرتبات أو تخفيف الجوع، تُساق الجماهير إلى ميادين خطابية بليدة، حيث تُرفع الشعارات بينما يتساقط الضحايا من الضربات الإسرائيلية التي تكشف كل مرة هشاشة مواقع الحوثيين وقياداتهم.

وما هو أخطر من ذلك، أنّ هذا النهج الحوثي لم يحقق شيئًا لا على الصعيد القومي ولا الداخلي، بل أدى ـ كما يشير سلمان ـ إلى إضعاف الارتباط الوجداني اليمني بالقضية الفلسطينية. فالمزاج الشعبي الذي كان من أكثر الأصوات العربية تعاطفًا مع غزة، بدأ يتحول إلى سخط من جماعة "أبهتت" النضال الفلسطيني وأقحمت اليمنيين في مواجهة مجانية لم تجلب سوى المزيد من الموت والخراب. بعض النخب باتت لا تستنكف حتى من الدعوة إلى "التحالف مع الإسرائيلي ضد الحوثي"، وهو تحول خطير يعكس حجم الضرر الذي تلحقه الجماعة بالقضية الفلسطينية نفسها.

هكذا، تتحول "شماعة إسرائيل" من شعار مقاومة إلى أداة لإدامة الانقلاب وإخفاء الفشل الداخلي، بينما الحقيقة أن الحوثيين لا يجلبون إلا المزيد من الويلات: دمار للبنية التحتية، تآكل للنسيج الاجتماعي، وإضعاف لمكانة اليمن الإقليمية والقومية. وكما ختم سلمان، فإن "نصرة الداخل والقومي تبدأ بتنظيف اليمن من هذا العقل العصبوِي الفوضوي الانقلابي الحاكم".

غضب شعبي متصاعد

ومع تراكم الأزمات وتزايد الضغوط المعيشية، تتسع رقعة التململ الشعبي في مناطق سيطرة الحوثيين يوماً بعد آخر. فالموظفون الذين حُرموا من رواتبهم منذ ما يقارب عقداً من الزمن باتوا يعيشون على الكفاف أو يعتمدون على الحوالات الخارجية، فيما يواجه التجار وأصحاب الأنشطة الصغيرة والمتوسطة شللاً متزايداً نتيجة ما يفرض عليهم من جبايات وإتاوات متكررة تحت مسميات مختلفة مثل "المجهود الحربي" و"دعم المناسبات الدينية". وفي المقابل، يقاسي المواطن العادي الغلاء الفاحش في أسعار المواد الغذائية والمشتقات النفطية، وانعدام الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وكهرباء، حتى باتت أبسط مقومات الحياة رفاهية نادرة.

هذا الغليان الشعبي لم يعد محصوراً في أحاديث المجالس أو تعليقات مواقع التواصل الاجتماعي، بل بدأ يأخذ أشكالاً عملية، من الاحتجاجات الصغيرة في بعض الأحياء، إلى تصاعد حدة الشكاوى الجماعية التي تصل إلى مكاتب المنظمات والسلطات المحلية. ويؤكد ناشطون أن اعتماد الحوثيين على خطاب "العدو الخارجي" وتصدير أزماتهم لإسرائيل أو غيرها لن يُفلح في إخماد هذا الغضب طويلاً، فالجماعة لا تستطيع أن تُخفي عجزها عن تلبية أبسط احتياجات السكان.

ويرى مراقبون أن الاحتقان بلغ مستويات حرجة، حيث لم تعد فئات واسعة من المجتمع ـــ من موظفين ومعلمين، إلى مزارعين وصغار التجار ـــ قادرة على تحمّل المزيد. ومع استمرار الانهيار الاقتصادي وسياسات النهب المنظم للموارد، فإن انفجار الغضب الشعبي بات مسألة وقت لا أكثر، خصوصاً إذا لم تُقدّم حلول عاجلة تُخفف من معاناة الناس أو تعيد لهم جزءاً من حقوقهم المسلوبة.