د. صادق القاضي

د. صادق القاضي

تابعنى على

المشكلة الكبرى.!

Monday 27 December 2021 الساعة 09:14 am

المشكلة الكبرى أن لكل شخص مشكلة كبرى هي -بالنسبة إليه- وجودية مصيرية، وذات بعد كوني، فالمشكلة ليست بالضرورة في المشكلة نفسها: حجمها، نوعها، موضوعها، علاقتها بمشاكل الآخرين.. بل في سياقاتها الذاتية، ومدى قربها وبعدها من حياة الفرد وعقله وحاجاته وظروفه وتصوراته الخاصة. 

على مستوى آخر. المشكلة الكبرى هي في طريقة الرؤية والتعامل مع المشكلة الفردية، قد يقول أحدهم: "ما فائدة اتساع الكون إذا كان حذائي ضيقا؟!": بما قد يجعلك تشعر بالاستهجان منه، والتعالي على كل النظريات التي تجعل الإنسان على مستوى حاجاته الذاتية، ونزعاته البدائية الضيقة.. لكن لماذا عندما يتعلق الأمر بك. يبدو قرص الاسبرين أجمل من القمر، وحتى من وجه حبيبتك، وقت الصداع؟!

الفردية لا تعني الأنانية بالضرورة، لكن حتى "الأنانية" نفسها ليست هي المشكلة. الإنسان أناني بالفطرة، كما يقول العلم على لسان البيولوجي الكبير "تشارلز دوكنز" في كتابه الشهير "الجين الأناني". الجنس بهذا المعنى العلمي سلوك أناني بامتياز غرضه فقط نشر جينات الفرد وتأبيدها في الأجيال القادمة. 

إذن. من وجهة نظر مثالية: الجنس مشكلة، لكن الحل بطبيعة الحال ليس باستئصال الأعضاء التناسلية، كما كان يفعل بعض كهنة بابل تقربا للإلهة "عشتار" إلهة الجنس والخصب، ولا بالخصي كما طلب بعض المسلمين الأتقياء الأوائل من الرسول (ص) خلال إحدى الغزوات النبوية.!

في كل حال: هذه الحلول المضحكة (الاستئصال والخصي) ما زالت حاضرة بزخم وقوة في كثير من أرجاء العالم المعاصر. لكن بأشكال أخرى في إطار التعامل مع الفردية باعتبارها مشكلة يجب التنكر لها ومحاولة محوها أو استلابها من خلال قمع الرغبات والعقول والقدرات.. الفردية. لجعل العالم كله "على قلب رجل واحد".!

في المقابل تحتاج المسألة فقط إلى الاعتراف بالفردية وحتى الأنانية كجزء من كيان وكينونة الفرد، وإلى شيء من العقلانية لتهذيبها وإدارتها بما لا يتعارض مع أنانيات الآخرين، على المستوى الخاص، وبالذات على المستوى العام حيث الأنانية حاضرة بنفس القدر، بين الفئات، حول القضايا والمصالح العامة.

مثلاً ظاهرة الثورة. حسب المفكر العظيم "عبد الله القصيمي": الثوار ثوار لأنهم لم يجدوا مكانا لهم بجانب الملك، والموالون موالون لأنهم لم يجدوا مكانا لهم بجانب الثورة، في حين أن الأغلبية الصامتة تراقب المعركة عن كثب، وتنتظر الحسم لتقف مع المنتصر، من أجل الأمن والرغيف.! 

وبناءً عليه يمتلك المحايدون كثيرا من المبررات التي قد تبدو وجيهة ومقنعة لموقفهم، لكن الحقيقة أنهم لم يجدوا لهم مكانا مناسبا لدى أي من الطرفين، فالتزموا الحياد كموقف فردي ذاتي أناني من النادر أن يخلو من الانتهازية.

أرأيت..؟ نحن نخادع الآخرين وحتى أنفسنا غالبا لنشعر بالانسجام الداخلي، ونرضي ما نسميه "الضمير" من خلال إضفاء هالات من الشرف والفضيلة على مواقفنا ودوافعنا الذاتية لتبدو موضوعية عادلة، في حين أننا لا نبحث عن الحق والعدل والفضيلة بل على أحذية بمقاسات أقدامنا..!

في الحقيقة لا وجود للحقيقة في عالم السياسة، هناك تدافع بين إرادات ومشاريع متضاربة، تتنافس حول السلطة، وهو ما فهمه العالم المتقدم جيدا، لتتحول العملية هناك من معركة دامية إلى لعبة ناعمة، قائمة على التداول السلمي للسلطة، وإدارة المصالح العامة وفق قواعد مشتركة وبرامج عملية واضحة. 

بينما في عالمنا الذي ما زال يتنكر لبشرية البشر، ولا يعترف بأولوية الفردية ومحورية النزوات الغريزية ما زال التداول الدموي هو سيد الموقف التداولي في كل الجوانب وعلى كل المستويات، في ظل مثالية انتهازية غبية نزقة تزايد بكل شيء: الله والدين والقومية والوطنية.. ولا تعرف أو تعترف في إدارة المصالح بغير الغلبة والتناحر والحروب والثورات والانقلابات.

كانت الشيوعية آخر الأوهام الشمولية الكبيرة التي حكمت جزءا واسعا من العالم المتقدم، كانت سيئة. لكن بالمقارنة. الماركسية -رغم كل شيء- أكثر تقدمية وعلاقة بالعصر والحياة والعقل والواقع.. من الشموليات التي نعتنقها، الشيوعية تخصي الفرد من أجل المجتمع، بينما شمولياتنا تخصي الفرد والمجتمع من أجل الأوهام المقدسة العقيمة.!

في الأخير برهنت "الفردية" في أجزاء واسعة من العالم المعاصر، وبشكل عملي، أنها ليست هي المشكلة، بل الحل، المهم أن يتم النظر إليها والتعامل معها في ضوء العقل والعلم والحرية، بما يتضمن الاعتراف بهذه الأنانية الغريزية التي لا يمكن الفكاك منها، وتنظيم تضارباتها، بينما ما زلنا نحن نجهل أنفسنا، ونمارس نزعاتنا ونزاعاتنا كما كان إنسان "النياندرتال" يمارسها في سهول أوروبا قبل عشرات الآلاف من السنين..!