أنور العنسي

أنور العنسي

تابعنى على

"المقالح" في رسائل الغد

Wednesday 15 February 2023 الساعة 05:55 pm

لئن كان رحيله (الدكتور/ عبد العزيز المقالح) متوقعاً في أي لحظة، منتظَراً بأي شكل، ومحتوماً في النهاية، إلاَّ أن الشعور بفقدانه بكل ذلك الألم، في لحظةٍ واحدة، لم يكن متوقعاً ولا محتملاً، وأن غيابه لم ولن يكون ولن يطول حتى بعد موته، وأن رحيله كجسدٍ لن يكون مفهوماً إلاَّ بمعناه المادي البيولوجي لا الإنساني والإبداعي.

ومع هذا فلا أنكر أنني لحظة سماعي بموته المزلزل كدت أرى الجبلَ الأشمَّ العظيمَ الرابع، الذي يحرسُ صنعاء، بجانب (نُقُم) و(عَصِر) و(عيبان) وقد تململ من مكانه، أو أنَّ وطناً كاد في غفلة من القهر أن يسقط من حسابنا، ولكن هيهات أن يختفي الجبل أو يسقط الوطن.

كدتُ لساعاتٍ بعد موته لا أدرك الفرق بين الليل والنهار، لولا أنه "حصان الفجر الذي ركض في سمائنا" وغرس أعلام (الجمهورية) فوق كل شبر من وجداننا، وأن شراعه الذي داخ في لجة الموت كأنما أيقظ البحر من سباته.

لعل إنجاز المقالح الأهم ليس أنه علَّمنا أبجدية الشعر وإدمان القراءة وفِقْهَ الكتابةِ فحسب، بل أنه مكَّن جيلنا من إعادة اكتشاف هويته، والتعبير عن عالمية إبداعه في نموذجها اليمني والعربي والإنساني.

لم يكن المقالح ليكتب قصيدته ثم ينفصل عنها وينساها مثلما فعل كثير من شعراء قرْنٍ مضى، عالميون كبار مثله، لكنه امتاز على أغلبهم بالوقوف شامخاً بمبادئه حتى آخر يوم من حياته.

ويكفي المقالح اليوم أن يُعاد إنتاج المقالح من جديد في شلالات الضوء التي تنهمر بها أصابع تلامذته الشعراء والروائيين والفنانين التشكيليين، وتصدح بإلهامه أوتار العشرات من الملحنين والمغنين، وتشتق من لغته عبارات ألوفٍ من المشتغلين بفن الكتابة في الصحافة أو الصورة والصوت في التليفزيون والإذاعة.

بما أن عبدالعزيز المقالح قد ترجل جسداً، فإنه سيظل (معنىً) خالداً في عقولنا وضمائرنا، وسيبقى (عاشق النهار) الذي سافر عن دنيانا مقيماّ إلى الأبد فينا، لكن علينا الآن أن نكفكف الدمع، وأن تتحد إراداتنا وتتشابك أيدينا ونمضي جميعاً بجهد مؤسسي منظم نحو ما يحفظ ترسانة تراثه، في رسالة إلى الغد يتناقلها أبناؤنا جيلاً بعد جيل، تماماً مثلما أحيا المقالح بإنتاجه الشعري الغزير ومؤلفاته الكثيرة الثرة تاريخنا وتراث حركتنا الوطنية.

ومثلما حفظنا معه الكبار قبله، الحورش والموشكي والزبيري والبردوني والفضول وأمان وغانم وجرادة وغيرهم يجب علينا أن نكون حفظةً لقصائده الوطنية العصماء، وحُفاظاً أمناء لفكره الإنساني النيِّر، وأن يظل موقفه الصلب في قضايا الحرية والعدالة والكرامة رمزاً نُجِلُّه ونحترمه، ومناراً نهتدي به، ونبراساً يضيئ لنا الطريق.

له الرحمة وعليه رضوان رب السماء، وله الخلود في جنان الخلد، والسلام في دار البقاء.

*من صفحة الكاتب على الفيسبوك