فهمي محمد

فهمي محمد

تابعنى على

الشعب السياسي والدولة المدنية

Friday 14 July 2023 الساعة 07:56 pm

الدولة بالمعنى الذي ينصرف إليه مفهوم الدولة المؤسسية أو دولة المواطنة المتساوية هي وليدة التجربة السياسية الحديثة في المجتمعات الأوروبية التي تحولت إلى شعوب.

وهي بهذا المعنى تعبر عن تطور المجتمع الأوروبي ثقافيا وسياسيا وحتى اجتماعياً في مسارات متلازمة مثلت رافعات حقيقية لمفهوم الدولة وديمومتها في أي مجتمع إنساني.

وبدون ذلك يعدُ الحديث عن بناء الدولة بالمفهوم المؤسسي أو المدني مجرد فلسفات نظرية أو يوتوبيات معلقة بالهواء غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع!

فالتطور المقصود هنا ينصرف أولاً إلى صيرورة وعي المجتمعات الأوروبية بمخاطر السلطة القائمة على الامتياز الشخصي أو على النفوذ المهيمن للأفراد أو الجماعات داخل جهاز السلطة بحيث كانت السلطة تعكس ثقافة مجتمع تقليدي.

بمعنى آخر إن المجتمع الأوروبي بوعيه المتراكم والحداثي على مستوى الوعي المجتمعي وحتى التفكير السياسي أصبح غير قادر على تحمل مغامرات الأفراد في قيادة السلطة الحاكمة للمجتمع.

وبهذا الوعي السياسي تم اختراع فكرة الدولة كفكرة سياسية عامة تتجاوز مفهوم السلطة الشخصية وبنفس الوقت تشكل حالة سياسية ناظمة لحركة المجتمع ومكوناته بحيث أصبح الفرد هناك لا يخضع لسلطة الأشخاص بذواتهم بل يخضع لسلطة الفكرة العامة (الدولة) التي تجد سندها ومبرر وجودها في سلطة النظام والقانون وسلطة الدساتير الوضعية التي صاغتها مكونات الشعب وإرادتهم الجمعية، بحيث أصبحت الدساتير عقودا اجتماعية ناظمة لسلطة الدول التي اختفت في ظلها سلطة الأفراد والجماعات التقليدية خصوصا بعد أن حلت الأحزاب السياسية الوطنية على المستوى الاجتماعي محل المكونات التقليدية.

وإذا كان هذا الوعي المجتمعي قد خلق تطورا على مستوى الفكر السياسي الحديث بحيث تحولت بموجبه السلطة الفردية أو العائلية وحتى المذهبية إلى دولة بالمفهوم الوطني وتحول الأشخاص بنفوذهم السلطوي إلى موظفين حكوميين داخل مؤسسات الدولة يمارسون سلطة النظام والقانون في خدمة الجماعة وليس في التسلط على رقابهم، فإن هذا الوعي المجتمعي بذاته قد تحول بفعل التراكم النوعي إلى سلطة مؤثرة في الواقع أقوى من سلطة الحاكم نفسه (رأي عام فاعل ومؤثر أو سلطة أهل الفكر) يقف بحزم في وجه أي محاولات هدفها العودة بالمجتمع إلى ظل الممارسات السلطوية للأفراد وحتى لسلطة الأحزاب المستبدة التي حازت على السلطة في زمن الإيديولوجيا والنظريات الثورية لا سيما الانقلابية منها.

وفي مرحلة ثانية نجد انتشار هذا الوعي المجتمعي في مستواه الأفقي «بعد أن تحول المجتمع التقليدي إلى شعب سياسي» قد أدى إلى تأصيل قيم الحرية والتسامح والحوار وقبول الآخر المغاير كقيم ثقافية ثابتة ومتداولة، وتأصيل ذلك ثقافياً في المجتمع، بل وتم تحويل تلك القيم المدنية إلى ديناميكية سياسية ووجدانية فاعلة على مستوى سلوك الأفراد والجماعات.

بمعنى آخر تحولت تلك القيم الثقافية إلى نظام معرفي يضع المحددات لسلوكيات العقل السائد أو الفاعل في المجتمع بشكل عام (عقل جمعي)، وحتى على النظام السياسي وهو ما فرض تطورا آخر في مفهوم الدولة بالمعنى الذي ينصرف إليه مفهوم الدولة المدنية الحديثة بحيث أصبحت الدولة كيانا سياسيا تعبر عن ثقافة شعب تؤطره ثقافة الفكرة الوطنية الجامعة وليس ثقافة مجتمع تقليدي تؤطره ثقافة الانتماءات الجزئية مثل الثقافة المذهبية أو القبيلة أو الطائفية والجهوية.

على هذا الأساس نجد أن الوعي الاجتماعي في المجتمعات الغربية ساهم للمرة الثانية في تطور هام في صيرورة الدولة الحديثة ليس على مستوى ممارسة السلطة والقرار بالمفهوم المؤسسي السابق من الزاوية الوظيفية للدولة، بل على مستوى مشروعية النظام السياسي والسلطة الحاكمة بشكل عام داخل بنية الدولة وهو ما أدى إلى ظهور الدولة المدنية القائمة على مفهوم الديمقراطية والتعددية السياسية التي عكست في المقام الأول ثقافة الشعب السياسي وتوجهاته المختلفة والمتعددة سياسياً وثقافيا وفكرياً داخل دائرة الانتماء الثقافي للفكرة الوطنية التي أصبحت هي الأخرى هوية ثقافية جامعة بدلاً عن الهويات والانتماءات الجزئية.

هذا يعني أن الوعي المجتمعي في أوروبا هو الذي حدد مفهوم الدولة في تطورها التاريخي وفي صيرورتها المتحولة سياسياً واجتماعيا ومدنياً.

ففي المرحلة الأولى أنتج الوعي فكرا سياسيا عالج مخاطر السلطة بعد أن اكتوى بنارها وبمغامرة الحكام المستبدين الذين أساءوا استخدام هذه السلطة.

وبهذه المعالجة تحولت السلطة إلى دولة وطنية بالمفهوم الذي نناضل اليوم من أجله في اليمن وفي العالم العربي عموماً.

 وفي الحالة الثانية عالج مُشْكل الاحتقان والتدافع السياسي في المجتمع الذي تحول الى شعب سياسي انصهرت كل مكوناته التقليدية داخل إطار الفكرة الوطنية الجامعة لافرد الشعب، حيث تم تجذير وتأصيل مفهوم الحرية والقيم الثقافة المدنية.

وقد انعكس ذلك على مفهوم الدولة الوطنية الديمقراطية التي أصبحت بهذا التطور تعبر عن الواقع الثقافي الذي يعيشه الشعب أكثر من كونها آلة صماء تحكم المجتمع أي (دولة مدنية).

 وفي الحالتين كانت النتيجة اختفاء مفهوم التسلط في ممارسة سلطة الدولة، واختفت ثقافة الاستبداد في سلوك المواطنين.

ومن هذا وذاك تكون المجال السياسي الديمقراطي والنظام المعرفي النابذان لثقافة العنف والتطرف بكل أشكاله التي نعاني منها في واقعنا العربي بشكل عام واليمن بشكل خاص.