فهمي محمد

فهمي محمد

تابعنى على

تكرار التعاقب الزمني وفشل الصيرورة التاريخية في اليمن

Saturday 22 July 2023 الساعة 07:18 pm

اليمنيون اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى عليهم أن يعوا ذاتهم ووجودهم ومقعدهم في قطار الحياة.

 فالإنسان في اليمن مثل الإنسان في بقية شعوب العالم يعيش في رحلة عمر مع الأجيال الأصل فيها أن تتوجه نحو تحقيق التقدم، بحيث تبدأ هذه الرحلة من يوم الولادة وتنتهي غالباً بالموت عند الكبر بعد أن يكون هذا الإنسان قد ترك وراءه أبناء يواصلون بعده رحلة عمر لا تنتهي بتعاقب الأجيال التي يجب أن تسافر في حركة التاريخ.

 وهكذا فإن شعوب العالم دون استثناء هي شعوب مسافرة في رحلة عمر لا تتوقف على قطار الحياة الذي لا يعرف إلا مسارا واحدا يذهب بالإنسان نحو الأمام.

لكن الملاحظ من خلال التجربة التاريخية، أن حركة الشعوب بأحداثها المختلفة في هذه الرحلة الكونية تحمل في طياتها فروقا جوهرية بالنسبة لصناعة مستقبل الشعوب؛ فبعض الشعوب في هذه الرحلة تكتب قصة سفرها في الزمن المتكرر "لا غير" وبعض الشعوب في رحلة العمر تكتب قصة سفرها في التاريخ كصيرورة سياسية واجتماعية نحو التقدم الذي تصنعه إرادة الإنسان وكفاحه وفعله العقلاني المصاحب لفكرة التغيير على تضاريس الجفرافية.

 بمعنى آخر.. إن الشعوب التي تصنع أحداثاً تاريخية كبرى في رحلة العمر وينتقل أجيالها من مقعد إلى آخر نحو التقدم في هذه الرحلة هي الشعوب التي تكتب قصة سفرها في التاريخ {صناعة التاريخ} بعكس الشعوب التي لا تصنع أحداثاً تاريخية ناجحة وكبرى في رحلة العمر ولا ينتقل أجيالها من مقعد إلى آخر نحو التقدم فإنها تكتب قصة سفرها في الزمن.

الشعوب حين تسافر في التاريخ ويكون التاريخ بأحداثه الكبرى "مختبرًا" لصناعة مستقبلها فإنها دون شك في رحلة عمرها تصنع التحولات التاريخية التي تصل بها في القريب العاجل إلى دولة ووطن للعيش الكريم، أما حين تسافر في الزمن المتعاقب فإن سفرها يطول ويتكرر في حركة حلزونية خالية من التراكم؛ فهي لا تصل في رحلة عمرها إلى وطن، لأنها ببساطة شديدة تفشل دائما في صناعة الحدث التاريخي القادر على صناعة التحولات التاريخية المناط بها تحقيق التقدم وصناعة مستقبل الأجيال القادمة.

اليوم ونحن نضع أقدامنا في القرن الواحد والعشرين نشاهد كثيراً من شعوب العالم وصلت في رحلة عمرها إلى وطن ودوله لأنها بعقلٍ واعٍ أرادت أن تسافر في حركة التاريخ نحو المستقبل المنشود فصنعت في مسارها أحداثاً تاريخية ناجعة وتحولاتٍ كبرى أنتجت بموجبها مشروعات ثورية/ وطنية حولت جغرافيتها وبلدانها إلى أوطان للعيش المشترك.

 أما اﻹنسان في اليمن فإنه حتى اليوم مسافر في رحلة عمر (تائهة) تتوخى البحث عن دولة ووطن ولا أظنه سوف يصل في المستقبل القريب إلى هذا الوطن لأنه مصر على السفر في مسار الزمن؛ بل يعود إلى الماضي، ما يعني أننا فشلنا أكثر من مرة في صناعة الحدث التاريخي القادر على إنتاج شروط التحولات التاريخية على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي رغم تكرار الفعل الثوري بين الحين والآخر.

التاريخ بلا شك توقف بنا نحن اليمنيين في فجر التاريخ، عندما صنعنا الحضارات وبنينا السدود وقهرنا قساوة الجغرافيا وتواصلنا تجارياً وحضارياً مع شعوب العالم.

 في فجر التاريخ كنا أصحاب حضارة وعمارة واليوم حفاةٌ عراة نتقاتل في حاضرنا من أجل أن يتجدد الماضي بكل سماجته ونماذجه التاريخية اللا وطنية، في ترويسة مستقبل الأجيال القادمة في اليمن.

الفرق بين الزمن كتعاقب أوقات وبين التاريخ كصيرورة يكمن دائماً في قدرة الشعوب نفسها على التحرك الكفاحي الواعي والعقلاني بفكرة التغيير بكل أبعادها الثورية والوطنية التي تجعل من تلك الشعوب قادرة على مغادرة الماضي بكل قيمه ونماذجه السلبية إلى الحاضر المغاير والذي يمثل وفق مفهوم الصيرورة التاريخية، أي الحاضر (محطة انتظار متجه نحو المستقبل أكثر مما هي مرتبطة بالماضي وثقافته الماضوية).

أما حين تعجز الشعوب عن صناعة الحدث التاريخي الذي يدفعها في حركة ثورية تغييرية نحو المستقبل فإنها -بلا شك- تظل تعيش في الماضي بين (قيمه وأحداثه وأدواته) فيكون حاضرها مسلسلا مستمرا من التكرار الهزلي لتلك الأنساق والأحداث التي تجعلها تعيش زمنا واحدا تتوارث فيه الأخطاء والقيم الماضوية الممانعة لمشروع التقدم الحضاري، كما تتوارث الجينات وإن تعاقبت عليها الأوقات أو تغيرت الظروف، فلا قيمة ولا وجود لمعنى التاريخ في هكذا حال (فالتحرك التغييري وتكرار المتشابه من الأحداث يشكلان الفرق بين التاريخ كصيرورة وبين الزمن كتعاقب أوقات).

التاريخ كصيرورة هو فعل اﻹنسان الهادف إلى تغيير المجتمع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً نحو التقدم؛ أما الزمن فهو حركة الأوقات المتعاقبة حين يتوقف فعل اﻹنسان أو المجتمع عن الحركة الإيجابية نحو التغيير وتتعطل قواه العقلية عن الإنتاج والإبداع وتصبح حياته تكرارًا لمشهد واحد لا يتغير أو أنه يتحرك سلبياً فيعيد إنتاج الماضي في حاضره، وهو ما يجعل المجتمع في رحلة عمرٍ تقليدية تحمل على متنها غثاء أجيال متعاقبة بلا أهداف مستقبلية أو مشروعات وطنية تحقق ما يجب أن يكون ولا تستدعي ما كان أو ما هو كائن.

عندما تنجح الشعوب في مسألة التغيير فإنها تحوّل الزمن إلى تاريخ وإلى صيرورة نحو التقدم أما حين تفشل الشعوب في التغيير فإنها تسلب الزمن "تاريخيته" فتكون النتيجة توقف التاريخ عند جيل معين في رحلة العمر -كما توقف بنا في فجر التاريخ عند الأجيال الماضية التي صنعت الحضارة.

 ويستمر الزمن في المسير نحو الأمام وليس نحو التقدم، يحمل معه أجيالا كثيرة ولكنها غثاء سيل تحمل الجهل والفقر والمرض وتتوارث التخلف وثقافة الإقصاء، كل ذلك يجعلها تعيد إنتاج عوامل الانحطاط والتقهقر السياسي كما هو حالنا في اليمن.

"أهل الكهف" -على سبيل المثال- عاشوا في رحلة عمرهم الزمني 309 سنوات أحياء في الكهف يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال كما يخبرنا عنهم القرآن الكريم (وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ) ولكنهم كانوا يعيشون في حركة زمنية صرفة لا صيرورة تاريخية فيها.

 فالتاريخ لا وجود له في حياتهم، لأنه توقف في باب الكهف لحظة دخولهم؛ وذلك لسببين اثنين، الأول: إن حركتهم في الكهف لم تقصد التغيير؛ بل كانت حركة تكرار وتشابه للحدث "تقلب ذات اليمين وذات الشمال" لمدة 309 سنوات لا جديد فيها يغادر القديم ولا انتقال من الماضي إلى الحاضر المتغير في حياتهم.

 والثاني: إن قواهم العقلية تعطلت وتوقفت عن الإبداع والإنتاج.

فالتاريخ توقف بهم في أول يوم دخلوا فيها الكهف؛ واستمر الزمن (309 سنوات) يزحف بهم في رحلة عمر دون تغيير نحو المستقبل.

 ولذلك محال علينا قراءة تاريخ عنهم في تلك السنين، لأنهم توقفوا عن الحركة الإيجابية التي تصنع التقدم، وبقيت حركتهم سلبية تكرر الحدث الواحد والمتشابه، فلا ماضي ولا حاضر مغاير رغم طول الفترة المقدرة بثلاثة قرون وتسع سنوات في حساب الزمن.

لذلك عندما خرجوا من كهفهم -وبرغم أنهم أصحاب دين وموحدين لله- وجدوا أنفسهم متأخرين سياسيا وثقافياً وحتى اقتصادياً عن المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه، حتى عملتهم النقدية لم تعد مقبوله في التعامل وأصبحت عاجزة عن إطعامهم، والسبب في ذلك أنهم عاشوا داخل الكهف حالة من التعاقب الزمني في حين كان المجتمع خارخ الكهف يعيش في صيرورة التاريخ أو أنه يصنع التاريخ نحو المستقبل.

لذلك نستطيع القول إن قصة أهل الكهف وإن كانت معجزة من معجزات الله تعالى إلا أننا استنتجنا من خلالها مسألة الفرق الجوهري بين التعاقب الزمني والصيرورة التاريخية بالنسبة للإنسان المخلوق على هذه الأرض، خصوصا إذا تخيلنا بفكرنا الحديث أن أهل الكهف هم سكان دولة وأن المجتمع الذي يعيش خارج الكهف هم سكان دولة مجاورة! 

فالفرق بين حال سكان الكهف وسكان الدولة المجاورة حددته صيرورة التاريخ وليس تعاقب الزمن.

هكذا حال الشعوب عندما تتكرر الأحداث في حركتها الزمنية دون تغيير ودون صيرورة، فإنها تعيش زمنا واحدا فقط دون تاريخ يصنع التقدم، بمعنى آخر لا فرق بين ماضيها وحاضرها.

فالحاضر هنا تكرار هزلي لأحداث الماضي الذي يظل دوماً حاضراً ممتداً مع الأجيال المتعاقبة؛ بل متحكماً في كثير من تفاصيل حياتها الحاضرة، أما الحاضر الذي يكون نتيجة حركة التاريخ كصيرورة لا يتحكم الماضي بمساره وحركته وحتى بمخرجاته المتجهة دائمًا نحو التقدم وصنع المستقبل المشرق في حياة الشعوب.

عندما يتحرك التاريخ وفق أحكام الصيرورة الثورية نحو المستقبل، لا يكون بمقدور أي اعتمالات سياسية واجتماعية إيقافه أو العمل على استدعاء النماذج التاريخية الماضوية والممانعة كما هو الحال في اليمن.

 فالتاريخ لا يعيد نفسه كما قال ماركس وإن فعل فإن التكرار في الأحداث التاريخية المتشابهة تُعد في الأساس ملهات مضحكة في كل الأحوال سيما مع فكرة التغيير والتطور.

التاريخ يقدم نفسه دوماً حليفا للشعوب المتحركة والمتطلعة نحو التغيير كما يقول المفكر على املل، لأنه بطبيعته التحولاتية يتجه نحو تحقيق التقدم؛ أما الزمن فلا يقدم نفسه كذلك، لأنه لا يتجه بطبيعته التعاقبية نحو تحقيق التقدم، وإن كانت حركته إلى الأمام إلا أنها تظل حركة تتعلق بتعاقب الأوقات الزمنية فقط، وتفسير سر ذلك: أن الزمن تصنعه الجغرافيا بما هي مادة جامدة غير عاقلة مع فكرة التغيير.

فحين تدور الأرض حول نفسها وحول الشمس تعطينا الزمن كتعاقب أوقات بين الشروق والغروب، أما التاريخ يصنعه الإنسان حين يتحرك بوعي وبعقل إيجابي على سطح هذه الجغرافيا على أساس فكرة التغيير.

"الزمن لا يصنع المستقبل ولا يعنيه ذلك"، فالزمن حالة تعاقب وقتي بذاته، ناتج عن دوران الأرض، أما التاريخ مكلف بصناعة المستقبل لأن أحداثه ومحطاته صيرورة نحو تحقيق الأهداف، فالتاريخ بأحداثه هو المختبر الحقيقي الذي يتم فيه صناعة المستقبل كونه ناتجا عن حركة الإنسان الإيجابية نحو التقدم، والحركة الإيجابية هنا تعني الكفاح من أجل صنع شروط التحولات التاريخية الثورية نحو التغيير الذي يسافر بالمجتمع من الماضي السلبي إلى الحاضر المتغير.

الشعوب التي تصنع التاريخ كصيرورة ناجعة وتسافر في حركته هي الشعوب التي نجحت في تحويل الأحلام الوردية لمن كانوا في الماضي إلى واقع ملموس تعيشه أجيال الحاضر، أما الشعوب التي تسافر في رحلة عمرها في الزمن ولا تصنع الحدث التاريخي؛ فإن أجيال الحاضر تعيش واقعاً عاشته أجيال الماضي يتوارثون جميعاً أحلاما سياسية ووطنية لن تتحقق في الواقع كما هو حالنا في اليمن، بل إنها تعيش حالة وجدانية نحو الماضي! وإلا ماذا يعني واقع حالنا اليوم ونحن نفتش عن الماضي؟

اليمنيون اليوم بكل تأكيد تائهون في رحلة عمرهم، أضاعوا طريق المستقبل وفشلوا في تحقيق أحلامهم التي ضحى لأجلها ثوار سبتمبر وأكتوبر ولم تتحقق بعد في الواقع.

 وبعد أكثر من خمسين سنة خرج ثوار 11 فبراير بنفس الأحلام السابقة التي ثار لأجلها علي عبدالمغني ورفاق دربه ولا أظنها سوف تتحقق في المستقبل القريب!!

فالتجارب التاريخية تقول: عندما تتكلم أفواه البنادق يتوقف عقل الإنسان عن العمل والإبداع.

كما أن مستقبل الشعوب لا تبنى بأي حال من الأحوال في غيبة العقل والمشروع الوطني الذي يصنع التحولات التاريخية.

اليمنيون اليوم وهم يسبحون في مستنقع الدم عليهم أن يفكروا كثيراً في الطريق التي سلكوها طويلاً في رحلة عمرهم عبر الأجيال المتعاقبة، هل كانت رحلة عمر في الزمن أم كانت رحلة عمر في التاريخ؟

يعرف أحد المؤرخين الألمان التاريخ بكونه (حاصل الممكنات التي تحققت).

 فماذا تحقق اليوم من أحلامنا وتطلعاتنا في اليمن بعد ثلاث ثورات ووحدة سقط خلالهما مئات الآلاف من الشهداء والجرحى؟!

ولماذا لم تتحقق بعد؟

والأهم من ذلك هل رحلة عمر الإنسان في اليمن عبر الأجيال المتعاقبة هي رحلة عمر بقصد الوصول إلى وطن؟

وما هو الفرق بين الأوطان والبلدان بمقياس فكرة التغيير؟

وما هو المشروع الذي يحول جغرافية البلدان إلى وطن، والإنسان إلى مواطن، والسلطة إلى دولة مدنية؟

وما هو الفرق الجوهري في مفهوم السلطة ومفهوم الدولة؟

وهل تبنى الأوطان والدول بمداميك من الأحجار والحديد أم تبنى بمشروع سياسي وطني مداميكه الإنسان المدني بطبعه وفكره وثقافته الجمعية القائمة على ثنائية الأنا والآخر؟

هل قرأنا بوعي منهج التقدم الذي به سوف نتجاوز اختبار القبول في جامعة التاريخ كصيرورة- ونحجز مقعدنا في قسم هندسة الأوطان والدول لا سيما ونحن ــنخوض معترك الثورة الثالثةـ بعد تعرضها للانقلاب الماضوي الذي أسس للحرب الجارية وأعاد الماضي إلى صدر تاريخ الأجيال؟

سوف نتقاتل كثيراً وربما سنوات عديدة، ولكننا لن نبني وطنا ولن نحمي أرضا أو سيادة وطنية، بل لن نسافر في صيرورة التاريخ وسوف نفشل في المستقبل كما فشلنا في الحاضر والماضي فيما يتعلق بصناعة الحدث التاريخي الذي يصنع التحولات الثورية، ما لم نكن مؤهلين سياسياً وثقافياً وقادرين بعقلٍ واعٍ على تقديم حزمة من الإجابات العقلية / الجادة / والموضوعية / على تلكم الأسئلة السابقة وبالشكل الذي يجعل من تلك الإجابات العقلية مشروعا سياسيا وطني محقق الوجود وقادرا في نفس الوقت على تحويل اليمن بكل أوجاعها إلى دولة ووطن يعيش فيه اليمنييون جميعاً على قاعدة المواطنة المتساوية وفي ظل سلطة الدولة الوطنية الديمقراطية.