فهمي محمد

فهمي محمد

تابعنى على

العقل السياسي التاريخي والمركز المقدس

Friday 08 September 2023 الساعة 05:57 pm

في ظل الوجود العثماني في اليمن، قاتل شيخ القبيلة وإمام السلالة السياسية جنباً إلى جنب ضد هذا الوجود الأجنبي.

غير أن العقد الأول من القرن العشرين شهد دوراً بارزاً في وتيرة العمل العسكري، سيما منذ عام 1905؛ العام الذي أعلن فيه عن تولي الإمام الـ65 يحيى ابن الإمام المنصور بالله محمد بن يحيى المولود في الحيمة في 15 ربيع الاول من العام 1286 الموافق لشهر حزيران من العام 1869م.

وبناءً على ذلك تولى هذا الأخير قيادة المواجهة العسكرية مع العثمانيين داخل الجيوسياسية الزيدية انطلاقاً من فلسفة الزيدية المتعلقة باستحقاق السلطة، بحيث تُمنح شرعية سلطة الإمامة لمن ادعى أحقيته بها وسل سيفه في سبيلها، ناهيك أن هذه المواجهة المسلحة مع العثمانيين، شكلت نقطة مفصلية في مسار التكوين السياسي لدولة الجيوسياسية الزيدية في شمال اليمن.

اعترفت السلطة العثمانية بإمامة يحيى حميد الدين في 9 أكتوبر 1911م، باعتباره إماماً للمذهب الزيدي، لكن القراءة السياسية في بنود اتفاقية "صلح دعان" تجعل الإمام يحيى حميد الدين حاكماً للجيوسياسية الزيدية، في ظل الوجود العثماني في اليمن.

وبعد انسحابهم تمكن هذا الإمام من تأسيس المملكة المتوكلية التي حكمت شمال اليمن منذ عام 1918م وأحدثت في نفس الوقت فارقا كبيرا في موازين القوى بين شيخ القبيلة وإمام السلالة السياسية.

فقد تحول هذا الأخير إلى ملك يحكم دولة مستقلة ذات سيادة معترف بها دولياً مع الاحتفاظ لنفسه بلقب الإمام انسجاماً مع ثقافة السلالة السياسية التي تعمل على ربط المنصب السياسي بما هو ديني وجداني لدى الجماعة المحكومة. 

فإذا كان مصطلح الإمام في ثقافة المسلمين يعني من يؤم المصلين في الصلاة، بحيث يجد المسلمون أنفسهم خمس مرات في كل يوم وراء إمام يقودهم في السجود والركوع تجاه بيت الله الحرام، وهو ما جعل منزلة الإمامة في الصلاة، أو منصب الإمامة في الصلاة إذا جاز التعبير في ذلك، ترتبط بالإنسان الأكثر صلاحا وتقوى وعلماً، أي الإنسان المميز بمعايير التدين، الأمر الذي جعل الإماميين حريصين خلال تجربتهم التاريخية على وصف سلطتهم السياسية بالإمامة بهدف منح سلطتهم السياسية طابعا دينيا يكرس تميزهم العرقي "السلالي" بحيث تصبح السلطة مع هذا التكريس استحقاقا سلاليا تفرضها نصوص الدين وليس متطلبات المجتمع والسياسية.

لهذا فإن السلطة لدى "الهادوية" المخترعة تجد مبررها في النص الديني وليس في العقل البشري.

وعطفاً على ذلك، فإن سلطة "الإمامة السلالية" التي حكمت شمال اليمن في ظل المملكة المتوكلية، أي السلطة التي مثلت الهادوية المخترعة، ايديولوجيتها السياسية وجهازها المفاهيمي، وفي نفس الوقت شكلت حالة وجودية في مسار التكوين السياسي لدولة الجيوسياسية الزيدية في شمال اليمن، قد ارتبطت بعوامل داخلية وخارجية.

فعلى المستوى الخارجي كان الخطر السياسي للعباسيين قد زال بسقوط خلافتهم في عام 1285، والأهم من ذلك أن مسألة الخلافة كفكرة سياسية يعول عليها في الحكم هي الأخرى قد سقطت من القاموس السياسي بسقوط الامبراطورية العثمانية، في الحرب العالمية الأولى التي أدت هي الأخرى إلى متغيرات كبيرة على المستوى الدولي والإقليمي وانعكاس ذلك على شمال اليمن.

بمعنى آخر نستطيع القول إن المحيط الجغرافي الإقليمي لليمن منذ عام 1918م وعلى إثر هذه المتغيرات كان قد تحول إلى دول مستقلة وأخرى خاضعة لسيطرة الاستعمار الحديث الذي ورث تركة الرجل المريض، وجميعها اعترفت بسلطة الإمام يحيى حميد الدين على شمال اليمن بشكل أو بآخر. 

أما على المستوى الداخلي، فقد نجحت "الهادوية" في تحويل مشروعها السياسي -الذي كان يعيش منذ قرون في وسط حالة من الصراع التاريخي والسياسي مع مشاريع سياسية ودويلات منافسة له- إلى سلطة سياسية مركزية تفرض سلطانها على كامل التراب دون منازع في شمال اليمن وذلك لم يحدث قط منذ قدوم الإمام الهادي بن الحسين إلى اليمن عام 284 هجرية.

فلم يعد الإمام يحيى حميد الدين إمام المذهب وصاحب السلطة في الجيوسياسية الزيدية كما كان بموجب صلح دعان بل أصبح هو الحاكم على شمال اليمن.

ما يعني أن إمام السلالة السياسية قد تمكن بفضل هذه المتغيرات من توسيع مجاله السياسي وسلطته السياسية المقدسة إلى خارج فضاء الجيوسياسية الزيدية، في حين ظلت سلطة شيخ القبيلة تدور في حِمى القبيلة وعلى مجموع أفرادها داخل المجال الاجتماعي.

ومع ذلك فإن الإمامة نفسها كفكرة سياسية ونظام سياسي متخلف، إضافة إلى سياسة العزلة في وجه المتغيرات العالمية التي اتخذتها الإمامة أثناء فترة حكمها في شمال اليمن، قد أدت إلى الحفاظ على بقاء القبيلة كمؤسسة اجتماعية فاعلة "وظيفياً" داخل المجال الاجتماعي، ناهيك عن حاجة الإمامة نفسها إلى الدور الحربي للقبيلة في مواجهة المعارضة أو التمرد السياسي على سلطة السلالة السياسية في ظل الملكية المتوكلية.

فالقبيلة في ظل المملكة المتوكلية وإن كانت لم تتحول إلى قبيلة سياسية، إلا أنها ظلت قادرة على ممارسة حضورها التاريخي ودورها الوظيفي داخل المجال الاجتماعي.

وقد كان هذا بحد ذاته كافياً في نظر شيخ القبيلة للحفاظ على مصالحه، طالما أن إمام السلالة السياسية لا يملك مشروعا وطنيا، يعمل على تحقيق أي شكل من أشكال القطيعة الثقافة والاجتماعية مع الحضور التاريخي للقبيلة وعلى وجه التحديد داخل الجيوسياسية الزيدية التي بدأت تتحول من واقع حالها ومن معطياتها السياسية والاجتماعية والثقافية التاريخية، إلى مركز مقدس للقبيلة اليمنية وللسلالة السياسية وحتى للسلطة الحاكمة في صنعاء.

وما دون ذلك مما هو خارج فضاء الجيوسياسية الزيدية يجب أن تظل مكونات فرعية تدور في فلك الأصل.

إذاً، نستطيع القول إن الهادوية السلالية التي تحولت إلى سلطة سياسية حاكمة في شمال اليمن وإن كانت قد فشلت في الحفاظ على بقاء نموذج النظام الإمامي الذي استمر 44 عاماً فقط، إلا أنها ساهمت سياسياً وثقافياً واجتماعياً بشكل كبير في تكوين دولة الجيوسياسية الزيدية الحاكمة دائما بسلطة العقل السياسي التاريخي، تارة بسلطة السلالة السياسية وأخرى بسلطة القبيلة السياسية.

بدليل أن القبيلة التي كانت الجناح الحربي للسلالة السياسية في ظل المملكة المتوكلية الإمامية، والتي تحولت بعد ثورة سبتمبر 1962م، إلى القبيلة السياسية الحاكمة في صنعاء (بمنطق المركز السياسي المقدس الذي تحرك وقال يومها دون أن يعلن في وجه الثورة والجمهورية أن قبيلة الجيوسياسية الزيدية هي صاحبة الحق في إرث سلطة السلالة السياسية الزيدية) ثم فقدت سلطتها السياسية تدريجياً منذ ثورة 11 فبراير وحتى انقلاب الـ21 من سبتمبر 2014، عادت لممارسة دورها الحربي ليس من أجل سلطة القبيلة السياسية بل من أجل الدفاع عن سلطة السلاليين الجدد في ظل الجمهورية والوحدة والثورة الثالثة!