فهمي محمد

فهمي محمد

تابعنى على

دولة الجيوسياسية الزيدية وفكرة الضم والإلحاق

Thursday 14 September 2023 الساعة 05:57 pm

"صلح دعان" الذي عقد بين إمام المذهب (الزيدي) الذي تقلد منصب الإمامة في 1905م، وبين السلطة العثمانية التي وقعت الصلح معه في عام 1911م، بقدر ما أعطى مشروعية سياسية وقانونية تتعلق بالسلطة الممنوحة للإمام يحيى حميد الدين على المناطق الزيدية، بقدر ما ساهم في تأسيس الفعل السياسي والاجتماعي وحتى الثقافي المتعلق بمسار دولة الجيوسياسية الزيدية.

فإذا كانت التجربة التاريخية للهادوية الزيدية في اليمن تقول بأن إمام المذهب الزيدي هو من كان يمارس السلطة السياسية أو من انتزعها بالقوة والمجالدة بالسيف، فإن ذلك يعني أن الهادوية ربطت إمامة المذهب الزيدي بمسألة السلطة السياسية أكثر من ارتباطها بعقيدة وفروع المذهب الزيدي، الأمر الذي يعني أن إمام المذهب هو فقيه المذهب أو عالم المذهب أو داعيته، خصوصاً مع نظرية السيف التي أصبحت المصدر الواقعي في استحقاق السلطة السياسية، حتى في حال إن وجد أقران  يدعون استحقاق الإمامة في وقت واحد كما حدث مع أبناء الإمام الهادي بن الحسين الذين تقاتلوا على سلطة الإمامة بعد موته وأدى ذلك إلى سقوط أول دولة زيدية في اليمن.

فقد انتفضت القبائل اليمنية في صعدة وما حولها على أبناء الهادي بن الحسين الذين تقاتلوا على السلطة دون توقف، حتى كاد هذا القتال السلالي أن يهلك القبائل اليمنية التي تحولت إلى وقود حرب عبثية في سبيل منح السلالة السياسية تاج السلطة الحاكمة.

على هذا الأساس التاريخي للهادوية التي أصبحت أكثر سلطوية والتصاقا بالسلطة الحاكمة، أكثر من التصاقها بالمذهب الزيدي ومدرسته العقلية، سيما في ظل أيديولوجية المخترعة، التي قضت على وجود المطرفية وعلى فكرها السياسي، وتحولت في نفس الوقت إلى أيديولوجية السلطة الحاكمة، 

نستطيع القول إن اتفاقية "دعان" التى شملت على العديد من البنود أهمها: (يُنْتَخب الإمام حاكماً لمذهب الزيدية وتُبَلغ الولاية بذلك.

تشكل محكمة استئنافية للنظر في الشكاوى التي يعرضها الإمام.

يكون مركز هذه المحكمة صنعاء وينتخب الإمام رئيسها وأعضاءها وتصادق على تعيينهم الحكومة.

يحق للحكومة أن تعين حاكماً للشرع من غير اليمنيين في البلاد التي يسكنها الذين يتمذهبون بالمذهب الشافعي والحنفي).

كانت لا تعنى في الواقع العملي سوى منح أو تسليم السلطة السياسية الحاكمة للإمام يحيى حميد الدين على ربوع الجيوسياسية الزيدية، ناهيك عن السلطة القضائية التي أصبحت بيد الإمام يحيى.

 فالمادة الأولى من اتفاقية دعان تقول ينتخب الإمام حاكما لمذهب الزيدية.

 بمعنى آخر أن يكون يحيى حميد الدين إماماً للمذهب الزيدي، فذلك ليس هو الشيء الجديد أو المعترف به في اتفاقية صلح دعان، فتلك مسألة حسمت في 1905، في ظل سلطة العثمانيين على كامل شمال اليمن وتعمدت بمنطق المواجهات العسكرية المسلحة مع العثمانيين منذ عام 1905 إلى عام 1911م.

الشيء الجديد في صلح دعان هو أن يكون الإمام يحيى حميد الدين حاكماً لمذهب الزيدية (يُنْتَخب الإمام حاكماً لمذهب الزيدية وتُبَلغ الولاية بذلك) أي حاكماً سياسياً على أبناء المذهب الزيدي، خصوصا أن صلح دعان، أو اتفاقية دعان، حدثت في الوقت الذي كانت فيه الإمبراطورية العثمانية تعاني من ضعف سلطتها المركزية، وتواجه في نفس الوقت جبهات مسلحة متعددة خارج اليمن، ما يعني عدم قدرتها على فرض سلطتها السياسية المركزية على كامل الجغرافية التي كانت في حوزتها.

وإذا ما أدركنا أن وجود المذهب الزيدي أو تموضع المكون الإنساني الزيدي هو تموضع جغرافي محدد وليس متعدداً أو منتشراً هنا وهناك في العديد من المناطق اليمنية.

فإن مثل هذا التموضع المكاني مع خصوصية العوامل الاجتماعية والثقافية وحتى الجغرافية، التي أحاطت تاريخياً بهذا المكون الإنساني، قد جعل السلطة السياسية الممنوحة من قبل الإمبراطورية العثمانية للإمام يحيى حميد الدين بموجب صلح دعان، تتأسس على منطق الجيوسياسية أو على خصوصية الجيوسياسية الزيدية التي تم توظيف مفاعلها المذهبية والقبلية والثقافية وحتى الجهوية في تأسيس دولة الجيوسياسية الزيدية التي ظلت حاكمة حتى زمن النظام الجمهوري.

زد على ذلك أن بقاء الإمبراطورية العثمانية حاكمة في المناطق الشافعية والحنفية كما تنص اتفاقية دعان، دون منح أي شكل من أشكال السلطة السياسية أو حتى القضائية لزعامات سياسية في هذه المناطق حتى انسحابها من شمال اليمن في 1918 ساهم هو الآخر في تكريس دولة الجيوسياسية الزيدية من عدة وجوه أهمها:

الوجه الأول: منح الإمام يحيى حميد الدين سلطة حاكمة على الجيوسياسية الزيدية وتحديداً في ظل الوجود العثماني وسلطته المركزية المطلقة خارج فضاء الجيوسياسية الزيدية، جعل سلطة الجيوسياسية الزيدية قادرة على اكتساب عنصر الأنا والمركز «السياسي المقدس» الذي بدأ يتحدث باسم اليمنيين في وجه سلطة الوجود الأجنبي العثماني. 

خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار من جهة أولى أن منح السلطة في الجيوسياسية الزيدية -مهما يكن حدودها السياسية- كان يعني منح سلطة لليمنيين، مقابل وجود سلطة أجنبية، الأمر الذي ساهم في تشكل الأنا السياسي مقابل الآخر الأجنبي.

ومن جهة ثانية إذا ما أخذنا في الاعتبار أن منح السلطة السياسية في الجيوسياسية الزيدية كان على أساس مذهبي في ظل مذهب تأسس على إثر الوقائع السياسية، ناهيك أن السلطة الممنوحة للإمام يحيى أصبحت في حيازة أسرة تدعي المقدس في السياسة والاستحقاق الديني في السلطة بل تقاتل في سبيلهما. 

فهذا يعني أن منح السلطة بقدر ما كان اعترافاً بمسألة الاستحقاق التاريخي للسلالة، بقدر ما أدى إلى تكريس سلطة العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن والذي تولى بعد ذلك مطاردة جذور الفكرة الوطنية من داخل المجال السياسي العام، خصوصاً أن الفكر السياسي للقرن العشرين كان قد شهد العمل بالفكرة الوطنية، بعكس الاستعمار البريطاني الذي لم يتمكن أثناء رحيله من وضع مقاليد السلطة السياسية بيد العقل السياسي الحاكم تاريخياً في جنوب اليمن. 

الثاني: أدى انسحاب الدولة العثمانية من اليمن إلى خضوع بقية مناطق شمال اليمن تلقائيا لحكم الإمام يحيى، وكأن ما حدث يومها هو تسليم بقية المناطق التي كانت تحت السلطة المركزية للدولة العثمانية إلى سلطة الإمام يحيى، دون منازعة أو صراع يتعلق باستحقاق السلطة على المستوى الوطني.

الأمر الذي يعني أن "المملكة المتوكلية" في شمال اليمن، لم تتأسس في 30 أكتوبر عام 1918م على فكرة الاستقلال الوطني بالمعنى الذي يعني تحويل حدث الخروج أو الانسحاب العثماني من شمال اليمن إلى يوم وطني.. بل تأسست على فكرة الضم والإلحاق التي تعني إلحاق المناطق الشافعية والحنفية التي كانت تحت السلطة المركزية العثمانية كما هي محددة في صلح دعان، إلى سلطة الإمام يحيى حميد الدين التي كانت حاكمة في الجيوسياسية الزيدية منذ 1911.

وذلك كان وما زال حتى اليوم ينسجم مع ثقافة الأنا والمركز السياسي المقدس الذي تشكل كمُخرج ثقافي واجتماعي وحتى جغرافي داخل فضاء الجيوسياسية الزيدية، وهو مُخرج يعبر عن نفسه دائما في ممارسات العقل السياسي التاريخي أو في سلطة العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن.

إذاً نستطيع القول بأن فكرة الضم والإلحاق التي شكلت أحد المحددات الثقافية للعقل السياسي الإمامي الذي حكم في ظل المملكة المتوكلية، هي نفسها ثقافة العقل السياسي الذي أسس دولة الجيوسياسية الزيدية في شمال اليمن.

الدولة التي أصبحت تُعرف أو تُدرك بكونها حالة سياسية وجدانية سلطوية واقعية تحكمية وصاحبة قرار في الواقع، أكثر من كونها كيانا سياسيا دستوريا وقانونيا في شمال اليمن.

لهذا فإن دولة الجيوسياسية الزيدية انطلاقاً من جهازها المفاهيمي المتعلق بفكرة الضم والالحاق، تتعامل دائماً وأبداً مع كل المتغيرات السياسية في اليمن على أساس ثقافة الضم والالحاق تحت لواء الأنا والمركز السياسي المقدس.

حتى الحدث التاريخي المتعلق بمسألة تحقيق الوحدة اليمنية بين شمال اليمن وجنوبه في عام 1990 كان لا يعني بالنسبة لها سوى إلحاق جنوب اليمن تحت سلطتها الحاكمة، بنفس الطريقة التي تم بها إلحاق بقية المناطق في شمال اليمن تحت سلطة الإمامة بعد خروج العثمانيين.

الفارق بالنسبة لدولة الجيوسياسية يكمن فقط، بكون السلطة السلالية السياسية هي التي حكمت في ظل المملكة المتوكلية، وسلطة القبيلة السياسية هي التي حكمت في ظل الجمهورية بعد أن استولت على سلطة الثورة، أو أنها ورثت سلطة الإمامة بمنطق الجيوسياسية الزيدية التي أصبحت معضلة الثورة والجمهورية.