فهمي محمد
الولاية والحاكمية.. اغتيال السياسة واستقالة العقل المدني (3)
نستطيع القول إن ما كان ينقص المسلمين بعد موت رسول الله هي السلطة السياسية التي تتولى قيادة المسلمين، فالرسول خلال صيرورة التكوين العقائدي والمجتمعي الذي تشكَّل داخل المدينة كان يمثل مرجعية المسلمين، الأمر الذي يعني أنه لم تبرز حاجة المدينة مع وجوده كرسول إلى سلطة سياسية.
ومع أن الرسول لم يقدم نفسه قائداً سياسياً أو رئيس سلطة سياسية داخل المدينة، بل قدم نفسه رسولاً يتنزل عليه وحي الشريعة الإسلامية، إلا أن ذلك لا يعني أن الرسول لم يمارس الفعل السياسي داخل المدينة.
واذا كانت السلطة السياسية قد وجدت قبل مجيء الإسلام في بعض المجتمعات وظلت تعبر عن حاجة اجتماعية تتعلق بمصلحة المجتمعات الإنسانية بغض النظر عن معتقدها الديني، بمعنى آخر مع تحول الأفراد إلى مجتمعات بدت حاجة هذه الأخيرة إلى وجود سلطة سياسية تتولى قيادتها، فإن ذلك يعني أن السلطة في كل الأحوال هي سلطة سياسية محض دنيوية وليست دينية.
وحتى في حال ربط السلطة السياسية بالموجهات القرآنية انطلاقاً من مبدأ خصوصية التشريع الإسلامي، فإننا سوف نصل إلى حقيقة أن السلطة السياسية في ظل هذه الموجهات هي أكثر مدنية، لأنها تتأسس على الشوري أي على آراء الناس وأفكارهم السياسية، وهذا بحد ذاته يعزز مفهوم السلطة السياسية بكونها محض دنيوية تتأسس وتتطور وفق ثقافة الاقتدار السياسي المجتمعي، والقول بغير ذلك يجعلنا أمام سؤال يقول ماذا تعني الشورى إذا لم تكن قيمة سياسية وآلية سياسية تجعل المسلمين بصدد تحديد شكل السلطة السياسية وطريقة الوصول إليها بمعزل عن العنف والاستبداد؟
لكن الشورى على هذا الأساس كانت تحتاج إلى حامل أي عقل سياسي مدني يحولها من موجهات نظرية إلى ممارسات سياسية عملية تجاه سلطة الخلافة الإسلامية، الأمر الذي يعني أن الشورى في ظل الإسلام المبكر كانت بحاجة ماسة وشديدة إلى فتح أبواب السياسة على مصراعيها بنفس حاجة الشريعة إلى فتح أبواب الفقه الإسلامي.
الأمر الذي سوف يؤدي ليس إلى مدنية السلطة وقابليتها سياسياً للتحول إلى دولة وحماية المجتمع من العنف والدمار والقتل في سبيل الحصول على السلطة السياسية فقط، بل سوف يضع السياسة والشريعة وظيفياً في مكانهما الطبيعي دون القدرة أو الحاجة إلى استغلال السياسة باسم الدين أو استغلال الدين باسم السياسة كما جرت عليه العادة في ظل التجربة التاريخية للمسلمين، ناهيك عن انعكاس ذلك سلباً على مسألة الأمن والاستقرار والتنمية والتقدم الحضاري حتى اليوم.
بناءً على إمكانية وضع السياسة والشريعة وظيفياً في مكانهما الطبيعي فإن الشريعة الإسلامية سوف تجد نفسها معنية في تأسيس القانون عبر قنواتها المشروعة مع قابليتها للاجتهاد المواكب لقضايا العصر، أما السياسة فستجد نفسها معنية في تأسيس السلطة السياسية عبر قنواتها المشروعة أيضاً مع قابليتها للاقتدار المجتمعي الذي يعبّر عن تطلعات شعب سياسي.
بيت القصيد، إذا كانت الشريعة قد احتاجت في الإسلام المبكر إلى عقل بياني عبّر عن وجوده وعن أسئلة المجتمع تجاه الشريعة في مذاهب فقهية، فإن السياسة كانت هي الأخرى محتاجة إلى عقل سياسي مدني لم يسمح له بالوجود حتى لا يمارس دوره ويتعاطى مع أسئلة المجتمع تجاه السلطة السياسية من داخل مفهوم السياسة، أو من داخل مفهوم الشورى كقيمة سياسية دنيوية تتجلي في مسألة الاقتدار السياسي للمجتمع وليس في مسألة الولاية لآل البيت أو في مسألة الحاكمية لله تعالى.
وإذا كان الحل كذلك فإن بديهيات الأسئلة سوف تجعلنا أمام أسئلة تقول لماذا لم تتأسس السلطة السياسية في الإسلام على أمر الناس وعلى حاجتهم السياسية؟
ولماذا لم يُشكَّل عقل سياسي مدني حامل للسلطة السياسية في ظل التجربة التاريخية للعرب المسلمين حتى اليوم؟
بل لماذا تأسست السلطة السياسية على الدم وعلى القتل وتحولت إلى ملك عضوض في الإسلام المبكر؟
ولماذا تم مصادرة أمر الناس وحقهم السياسي في الأرض والصعود به إلى السماء على يد الولاية لآل البيت والحاكمية لله؟
أسئلة كبرى لا أدعي في هذه المقالة أنني سوف أشبع نهمها الذي يحتاج إلى مجلدات، إلا أنني سوف أتعاطى معها بقراءة سياسية تحليلية مغايرة بل ومنفصلة عن السرديات التاريخية للشيعة أو السنة، لأن السرديتين تتحدثان وتقنعان الأجيال القادمة بممارسات وأفكار لم تضع السياسة ولا الشورى منذ الوهلة الأولى في أماكنها الطبيعية أو داخل قنواتها الطبيعية التي تعبر عن وجودهما كاقتدار سياسي مجتمعي تجاه الحاكم وسلطة السياسية الحاكمة.
الأمر الذي جعل من هذه الأخيرة مجرد كيان عصبوي استبدادي مناقض لمصلحة الأمة وغير معبر عنها رغم زخمها الحضاري الذي رافق تجربتها التاريخية.
ربما هذا ما قصده المفكر محمد جابر الأنصاري بقوله (وإلى يومنا تبدو الأمة العربية بكل طاقتها الهائلة جسماً عملاقاً برأس سياسي في منتهى الصغر) أي أن السلطة السياسية لم تعبر حتى اليوم عن حضور المجتمع وتطلعاته.