فهمي محمد

فهمي محمد

تابعنى على

السد المنيع في وجه مشروع الحركة الحوثي

Saturday 16 August 2025 الساعة 07:00 pm

الحركة الحوثية، التي نمت في رحم الفكرة المذهبية الجهوية والبيئة الجبلية والمجتمع القبلي المحدود نسبياً في صعدة وما جاورها، تجد نفسها، عند التعامل مع اليمن الموحد، أمام كيان بشري وجغرافي هائل التعقيد والتنوع والاتساع. إنها تواجه "مكوناً إنسانياً" هائلاً يتجاوز بكثير حدود الجماعة المذهبية أو الإطار القبلي الضيق الذي نشأت فيه. هذا المكون البشري يتشكل من شرائح اجتماعية متنوعة: سكان السهول الساحلية المترابطين تجارياً، ومجتمعات المدن الكبرى التي تشكلت عبر عقود من التمدن والتعليم والانفتاح النسبي، مثل، صنعاء تعز وعدن وحضرموت و إب على سبيل المثال وليس الحصر ومجموعات قبلية كبيرة ذات ثقل وتاريخ سياسي مستقل في مناطق مثل مأرب والبيضاء وحجة، إضافة إلى فئات واسعة من المثقفين والسياسيين والمهنيين وأبناء الطبقة الوسطى في عموم المحافظات اليمنية. 

ابتلاع هذه الكتلة البشرية المتنافرة في كثير من الأحيان مع الرؤية الحوثية المذهبية الأحادية، والمنتشرة على مساحة جغرافية شاسعة ومتنوعة التضاريس والموارد، يمثل تحدياً وجودياً للحركة. إنها مهمة تفوق بكثير قدراتها التنظيمية واللوجستية وحتى الايديولوجية، فهي لم تثبت بعد قدرة على الحكم والإدارة الفعالة المنسجمة مع المجتمع حتى في المناطق التي تسيطر عليها عسكرياً في شمال اليمن، ناهيك عن اليمن بأسره.

الأهم من ذلك، أن الوحدة اليمنية رغم كل ما اعتراها من شروخ وتحديات جسام على مدى العقود الماضية، ما تزال تشكل الحصن الأصعب الذي يقف في طريق المشروع السياسي والايديولوجي للحركة الحوثية الانقلابية، فهي تفرض على الحوثيين التعامل مع واقع سياسي واجتماعي وحتى ثقافي لا يمكن اختزاله في بوتقة مشروعها المتخلف ولا في المعادلات القبلية التقليدية التي برعت في التعامل معها نسبياً في مناطق نفوذها التاريخي. ففي اليمن الموحد، لن تجد الحركة نفسها فقط أمام مشايخ قبائل يمكن التفاوض معهم أو شراء ولائهم أو ترهيبهم. بل ستواجه، وتواجه بالفعل على امتداد الجغرافية اليمنية، *نخباً سياسية وثقافية واجتماعية عريضة*. خارجه دائما عن طوقها، هذه النخب تشكلت عبر عقود من النضال الوطني وحتى المشاركة السياسية النسبية (حتى في ظل نظام علي عبدالله صالح)، وبعضها كانت حاكمة في جنوب اليمن بثقافة سياسية تقدمية وبمؤسسة سياسية حزبية وطنية.

كل هذه النخب السياسية والثقافية ترسخت لديها مفاهيم سياسية وطنية تقدمية مثل إسقاط صنمية الحاكم وعدم تقديسه دينيا وهي قد أصبحت بديهية ثقافية بالنسبة لهذه النخب، ناهيك عن إيمانها بالتعددية السياسية، وحق الاختلاف، والمساواة وفكرة الدولة الوطنية الحديثة القائمة على المواطنة، فمثل هذه النخب تجاوزت ثقافة الانتماء المذهبي أو المناطقي الضيق. الذي يجعلها أدوات سياسية أو اجتماعية بيد الحركة الحوثية، إنها نخب تؤمن، أو على الأقل تطالب اليوم، بدولة ديمقراطية تعددية، تقوم على مؤسسات دستورية، وتداول سلمي للسلطة، واحترام الحريات الأساسية.

هذا الفكر السياسي الحديث، المستند إلى تجارب تاريخية وطنية وإقليمية وعالمية، يتعارض جذرياً مع الرؤية الثيوقراطية الأحادية والهرمية التي تقدمها الحركة الحوثية، والتي تتمركز حول سلطة "الولي الفقيه" أو "القائد" أو علم الهدى المستند إلى شرعية دينية -مذهبية مغلقة تجد صداها في اجزء من شمال اليمن. لا يعني قط وجود هذه النخب السياسية الوطنية الواسعة والمتجذرة في المجتمع اليمني، والمتمسكة بفكرة اليمن الموحد كإطار للصراع السياسي والبناء الوطني، أنها تشكل اليوم تحدياً للقضية الجنوبية العادلة، بل  تشكل تحدياً فكرياً وسياسياً لوحود الحركة الحوثية وللخطاب الحوثي ويحد من قدرته على فرض رؤيته ومشروعه كحقيقة مطلقة على اليمنيين.

صحيح قد يبدو الآن للبعض أن اعادة اليمن إلى وضع دولة في الشمال ودولة في الجنوب هو الحل الامثل لتجاوز مكونات لاستعصاء السياسي في الشمال، لكن واقع المشهد السياسي والعسكري في الجنوب يقول إن خروج الجنوب من معادلة الوحدة في هذه الظروف المعقدة بقدر ما سوف يضر في وحدة الجنوب ومستقبله بقدر ما سيعمل على تسهيل المهمة الحوثية في الشمال. فبدلاً من مواجهة كتلة اليمن الموحد بكل تنوعها وتعقيدها، ستجد الحركة نفسها أمام كيانات سياسية وجغرافية أصغر حجماً وأقل تعقيداً نسبياً. سيُختزل المشهد السياسي في الشمال إلى حد كبير إلى التنافس بين القوى التقليدية القبلية والمناطقية التي قد تكون أكثر قابلية للاحتواء أو التوظيف ضمن معادلات القوة المحلية، بينما تتراجع قوة وصوت النخب المدنية المؤمنة بالدولة الوطنية التعددية التي تتطلب مساحة وطنية أوسع لتزدهر. سيفقد مشروع الدولة الديمقراطية التعددية مرتكزه الجغرافي والبشري الأوسع، ويصبح أسهل للحوثيين .

في الختام، اذا كانت الوحدة اليمنية هي أهم المنجزات الوطنية للفعل السياسي الحزبي، فإنها ما تزال اليوم برغم جراحاتها تشكل الإطار الحيوي الذي يُمكن العقل السياسي الحزبي - القائم على البرامج والمؤسسات والتعددية- ليكون سداً منيعاً في مواجهة العقل السياسي التاريخي المذهبي الأحادي، الذي تكرسه الحركة الحوثية في اليمن . الحديث عن الوحدة في هذا السياق لا يعني إلغاء القضية الجنوبية أو التنكر لحل عادل لمطالبها المشروعة، ولا يعني استخدم الجنوب نيابة عن الشمال في مواجهة إنقلاب الحركة الحوثية، بل يؤكد أن أولوية اليمنيين جميعاً تكمن اليوم في الانتصار على كل المشاريع الطائفية والمذهبية اللاوطنية التي تهدد وتعيق مستقبل الدولة الوطنية الديمقراطية في اليمن بشكل عام، ناهيك إن تعزيز الفكر السياسي المؤسسي والحزبي التعددي، كما تظهره مقاومة النخب الوطنية المتنوعة عبر الجغرافيا اليمنية، هو الضمانة الحقيقية لمواجهة التمدد الحوثي وبناء مستقبل يقوم على أسس المواطنة والديمقراطية والعدالة للجميع، جنوباً وشمالاً. الوحدة، بهذا المعنى، هي الحاضنة الضرورية لتحقيق الحل العادل للجنوب ومنع تحول الشمال إلى ثيوقراطية مغلقة.