د. ثابت الأحمدي

د. ثابت الأحمدي

تابعنى على

الرجل الصّغير

Thursday 04 April 2024 الساعة 02:44 pm

حين أقولُ: الرجل، فلاكتمال معاني وصفاتِ الرجولةِ التي تبدى بها ذلك القيل اليماني الأصيل، وحين أقول الصّغير، فلا شيءَ إلا لصغرِ سنه فقط. "الرجل الصّغير".

هذا هو الطفلُ اليمني، يُولد طفلا، ولكن بمسؤولية الرجل الكبير. هذا قدُره منذ عقودٍ طويلة؛ بل منذ قرون. يُلقي به الريف إلى المدينة يافعًا، وتُلقي به المدينة إلى خارج الحدود بعد ذلك للاغتراب شابًا، وقد يعود كبيرًا بعد ذلك، وقد لا يعود. وسلوا هضابَ شرق إفريقيا وسهولها وأنجادها، وسلوا أندونيسيا وجاوة والهند وماليزيا التي ابتلعت ملايين اليمنيين الذين شردتهم الإمامة، ولم يعودوا بعد.

اقرأوا رواية "الأطفال يشيبون عند الفجر" لمحمد أحمد عبدالولي، واقرأوا قصيدة البالة لمطهر الإرياني، و"غريبان وكانا هما البلد"، وأيضا: "مسافر بلا مهمة" للبردوني، واقرأوا ديوان محمد غالب أنعم "غريب على الطريق". جميعُ هذه الأعمال جسّدت شقاءَ وبؤسَ اليمني الذي وُلد باكيًا، وعاش شاكيا، ومات شريدًا.

هذا طفلٌ بعمر الزهور، حقه في هذا السّن أن يلهوَ مع إخوته في المنزل، أو يلعب مع أقرانه في الحديقة، أن يحتضنَ لوح "الآيباد" أو "التابلت" لا أن يحتضنَ صحن السمسم للبيع. أن يُمارسَ هوايته في الرياضة أو الرسم أو الغناء، لا أن يتحملَ تكاليف وأعباء الحياة التي ولد فيها ليشقى!

أطفالُ اليمن غيرُ أطفال كل الدول من جوارنا. في كل الدول التي تحترم نفسها يولد الإنسانُ ويعيش، ثم يموت؛ أمّا عندنا فيولد، ثم يموت؛ لأنّ ما بين ميلاده والوفاة شقاء ممتد، وبؤس متصل، لا يعرف معهما شيئا من متعةِ الحياة. حياة تختصرها كلمتان: ولد، ومات!!

هذا الطفلُ مشروعُ زعيم، وزير، مخترع، طيار، مهندس، طبيب؛ لكن لأنه ولد في اليمنِ وجد نفسه في المحطةِ الأول من حياته بائعًا متجولا، يستنشق دخان الحرب، وغبار الصّراعات، لا لذنبٍ اجترحه؛ إنما لوجودِ ساسةٍ فاشلين. يا للمواهبِ المقتولة في بلدي!

هذا الطفلُ، أو بالأصح: الرجلُ الصّغير، فصيح، لبق، ذكي، مؤدب، نَبيْه، مرتب في هندامه وشكله، منطقي في حديثه، كاريزما ملفتة، مكانه في الصّف الأول من أكاديمية الموهوبين، يتنشّأ فيها على حب الوطن، ليقوم بواجبه بعد ذلك.

أرى في وجه هذا الطفل وجه كل طفل يمني. ألمحُ بين عينيه حديثًا طويلا، تعجزُ الصّفحاتُ عن تسويده.

أرى فيه شهامة البيضاني، نُبل الشبواني، صدق الحضرمي، ذكاء التعزّي، بساطة التهامي، طيبة الإبّي، روح العدني، نباهة الصّنعاني، أرى فيه تضاريسَ اليمنِ كلها.

هذا رجلٌ صَغير، لا تسيرُ مواهبُه بقدمين؛ بل تطيرُ بجناحين، تكشفُ ملامحُه الأولى عن تربيةٍ بيتيّةٍ نبيلة، عن أخلاقٍ أصيلة، جعلته ذلك الشخص المعتد بنفسه، المرتب في حديثه، صاحب المشروع الناجح منذ لحظاته الأولى.

من خارج الموضوع:

شكرًا للإعلامي الرائع، قنّاص الأفكار الذي صنع مادة إعلامية تاريخيّة، بكشفه عن موهبةٍ أصيلة، وأجارنا الله من القنص والقناصين.

والشكرُ كذلك لسَعادة وكيل محافظة ريمة الأستاذ محمد العسل الذي بادر من جهته في ترتيب منحة دراسية في إحدى المدارس الخاصة، تليق ومكانة "الرجل الصّغير". خواتم مباركة، وكل عام والجميع بخير.

من صفحة الكاتب على إكس