محمد عبدالرحمن

محمد عبدالرحمن

"فطيرة" الذرة و"طاسة" اللبن.. من ذكريات رمضان

Tuesday 13 April 2021 الساعة 08:27 pm

لا شيء يغلبنا هذه الفترة إلا الحنين إلى الماضي، عندما كنا نعيش في حالة صفاء مع النفس ومع شعائرنا التعبدية، ونستقبل رمضان قبل قدومه بفترة، ونشعر أننا نستقبل الله في شهره ونستعد لأن نكون من الظافرين برحمته وبأنفسنا وقد اغتسلت بتراويح وقيام رمضان ولياليه التعبدية. 

ولرمضان طقوسه الخاصة، وأدبياته الاجتماعية التي تروض الإنسان وتجعله أكثر اجتماعياً وأقل عزلة عن الآخرين، ولا تنطفئ لياليه على الرغم من بساطة العيش وهناء الحياة بقليل من الإمكانيات.

السحور في الريف هو أشهى وألذ بألف مرة من سحور المدينة، "هريش" الذرة الصفراء، والسمن والحليب واللبن، أو فطير الذرة الحمراء والبيضاء واللبن، هذه وجبات السحور التي لا يمكن أن تفارق ذاكرتي الملتصقة بقدوم رمضان في كل عام. 

لا أحد يمكنه أن يزيح عن ذاكرته طقوس ووجبات رمضان، وخاصة في بدايات حياته الواعية والتي عندها تبدأ الذاكرة بتخزين كل ما يمكنها من التقاط صورة للواقع.

استقبل رمضان هذه الأيام على رائحة فطيرة الذرة والهريش والسمن البلدي، هذه الرائحة التي تبعث حنينا إلى الماضي وهدوئه، واستقبله على صوت المذياع ونغمته المعتادة لرمضان، وأدخنة البيوت، وتسكع البقر والنعاج، وكأن رمضان هو ذاك الذي كنت استقبله، ورمضان اليوم ليس ملكي، لأنني لم أستطع أن أتخلى عن الأول بكل ما فيه.

أنا ابن الريف وراعي البقر والغنم، أعرف شعابا ووهادا ألفت صحبتها طيلة أيام طفولتي، يأتي رمضان ويتخلى الناس عن النهوض من الصباح الباكر، وكنت أنا الذي أرعى خيوط الشمس وهي وحيدة مع بقري وأغنامي، وكانت تحرسني إذا غلبني النعاس تحت ظلال شجرة "القرضة".

من ألذ وأشهى ما بقي معي من ذكريات رمضان، هي ذلك الوقت الذي يسبق أذان المغرب، وأنا أصطحب "فطيرة"الذرة الحمراء، وطاسة اللبن إلى المسجد، وغيري يفعل ذلك، ونقوم بما يشبه الإفطار الجماعي، لم يكن التمر موجوداً على مائدة إفطار إلا ما ندر، وعند الأذان الذي يبدأ من الراديو في إذاعة صنعاء، نبدأ بالإفطار، وكان اللبن في تلك اللحظات أشبه بخمر الله في الجنة المذكور في القرآن.

اليوم أعيش غربة مع رمضان وطقوسه الباهتة، أشعر وكأن الزمن قد غدر بشبابي وأخذني إلى الشيخوخة سريعاً، الحرب غيرت من ملامح رمضان كثيراً، وغيرت من ملامحنا وسرقت من أعمارنا ما كان يجب أن نعيشه بكل تفاصيله الهادئة. 

يأتي رمضان وأشعر بالثقل في رأسي، غريباً مع نفسي، تنهشني احتياجات أسرتي ومتطلبات الحياة، ومواجهة الظروف التي تسوقنا إلى المجهول، شباب هذه البلاد كادح إلى ربه، لكنه لم يلاق بلاده، ولم يشعر بها بعد وهي تغادر الزمن وتلتصق ذكريات في ذاكرة الجسد لا غير.