التمييز ضد المرأة وحقوقها.. بين الإرث الاجتماعي والتشريع الديني (1-3)

السياسية - Saturday 11 May 2019 الساعة 02:37 am
نيوزيمن، كتب/أ.د/ حمود العودي

قضية العنف والتمييز الاجتماعي السلبي بين الإنسان وأخيه الإنسان بما يتعارض وفطرة الخلق المتساوية لكل البشر، هي من الأمور والظواهر الشائعة في الحياة السياسية والاجتماعية، وعلى امتداد ماضي وحاضر الوجود الاجتماعي للبشر، وهو العنف والتمييز الذي يتجسد بأشكاله ومظاهره المختلفة بدءاً بالعنف والتمييز الاجتماعي والنفسي أو العرقي مروراً بالعنف والتمييز الديني وصولاً إلى كل أشكال التمييز والتعصب القومي والثقافي والاجتماعي بين شخص وآخر أو جماعة وأخرى داخل المجتمع الواحد، أو شعب وآخر أو أمة وأخرى، بحيث يتم من خلال ممارسة هذا العنف والتمييز تعزيز حقوق طرف على حساب انتقاص حقوق الطرف الآخر وإنكار حقه عليه ومصادرته.

وكثيراً ما يتم تقنين وتشريع هذا العنف والتمييز الاجتماعي على المستوى السياسي العام، كأنظمة الرق والقنانة قديماً، وأنظمة الفصل والتهميش العنصرية الحديثة، وعلى أساس اللون أو الدين أو الجنسية والقومية، كما حدث في ألمانيا النازية، وجنوب أفريقيا العنصرية، وما يحدث اليوم في فلسطين من قبل الحركة الصهيونية العالمية وحتى أنظمة الكفالة والبدون في الجوار العربي.

غير أن ما يجري من عنف وتمييز على الصعيد الاجتماعي والنفسي وخارج النظام الرسمي قد لا يقل كماً وكيفاً وخطورة عما سبق إذا لم يكن هو أكثر وأخطر، لأن العنف والتمييز الاجتماعي المقنن يمكن أن يلغي قانونه الرسمي بسهولة، غير أنه لا يلتغى على الصعيد الاجتماعي بنفس السهولة، فإلغاء أبرهام لنكولن لنظام الرق في أمريكا قبل أكثر من مائة عام لم يحل دون ممارسة التمييز العنصري بين البيض والسود حتى اليوم، في مجتمع يدعي لنفسه حق حماية حقوق الإنسان على الأرض، وإلغاء نظام الإمامة في اليمن في مطلع ستينيات القرن الماضي كنظام سياسي سلالي عنصري فرض لنفسه من الحقوق السياسية والدينية ما لا يحق للآخرين منازعته فيه وما لم ينزل الله به من سلطان، لم يحل دون الاحتفاظ بتلك الأفكار وممارستها على الصعيد الاجتماعي من قبل بعض مرضى النفوس من بقايا الإمامة البائدة وبعض الجهلة أو من تم تجهيلهم بحقيقة العلم والدين، وهو الأمر الذي قد لا يختلف كثيراً إلا من حيث الدرجة لا من حيث النوع، فيما يتعلق بثقافة العنف والتمييز الاجتماعي المتعلقة بأبناء الناس وأبناء السوق والمناصب والأطراف والأصول "وقليلي الأصول"... إلخ، في اليمن وغير اليمن.

وهذه المقالات -في تقدير صاحبها على الأقل ـ هي الحصوة الأولى التي تُرمى في هذه البحيرة الآسنة والمتعفنة تحت ضوء الشمس وفي وضح النهار، والتي يشعر بها ويعاني منها الجميع دون أن يقوى أو يجرؤ أحد على الاقتراب منها ليلقي حصوة، ناهيك عن ضرورة أن يلقي كل منا صخرة لنتعاون جميعاً على ردم هذا المستنقع القذر كي نحمي أنفسنا من أخطاره، وقد حان الوقت لأن نفعل شيئاً ضمن مسار ثورة الربيع العربي التي يجب أن نفتح فيها كل الملفات وتلغى كل الخطوط والألوان الحمراء ومسمياتها وبشفافية ومسئولية لدرء هذا الخطر وما على شاكلته، ونطهر أنفسنا منه بدلاً من تجاهله والتستر عليه، وهو يفتك بنا فتك الوباء القاتل، وإشعال شمعة خير من لعن الظلام. وهذا هو أقصى ما يرجوه صاحب هذا الجهد من اجتهاده هذا، ولكل مجتهد نصيب.
أ.د/ حمود العودي

قضايا التشريع والتقنين الوضعي والديني، تُعد من بين أهم المتغيرات الأساسية المُستخدَمة في دراسات العُنف الاجتماعي والنوع الاجتماعي وتحليله، باعتبار أنَّ القوانين والتشريعات السياسيَّة والمدنية هي المقياس الأكثر حسماً لتحديد الموقف الاجتماعي والسياسي للمجتمع، فيما يتعلق بسياسات النوع، وتحديد ما إذا كانت السياسة القانونية والتشريعية قد بُنيتْ على مبدأ المساواة والتكافؤ بين أفراد النوع الاجتماعي من رجال ونساء، وأطفال وشباب، ورجال ورجال، ونساء ونساء، وكل أفراد المجتمع أم لا، والفرضيات الأساسية الأولى التي يُمكن الانطلاق منها كمدخل لتوصيف وتحليل العنف الاجتماعي في ضوء القوانين والتشريعات العربية واليمنية النافذة، كمثال، هي إيجابية المرجعية الأصلية في الفقه والشريعة الإسلامية الذي يعتمد عليه التشريع العربي الإسلامي إلى حد كبير من جهة، وسلبية المرجعية السياسية والاجتماعية التقليدية وبعض تشريعاتها من جهة ثانية، وتطوُّر المرجعية التشريعية المعاصرة وتجاوزها للمرجعية الاجتماعية والسياسية التقليدية من جهة ثالثة.. ومفصل توصيف وتحليل كل ذلك فيما يأتي:

أولاً: الإسلام يرفض مقولة «إن المرأة ناقصة عقل ودين وميراث»

هذه المقولة الظالمة، هي من أشهر وأعمِّ ما أُلصقَ بالإسلام والمسلمين من الإيذاء والرَّغبة في الإساءة إلى دين الله وشرعه، بل ونبينا الكريم، عليه الصلاة والسلام، بنسبتها إليه كحديث نبوي في نظر البعض، وهي لا تعدو ـ في تقديرناـ مجرد افتراء موضوع ضمن الكثير مما افتُرِي به من الأحاديث الموضوعة، أو مجرد اجتهادٍ غير صائب في أحسن الأحوال، فحاشا دين الله وكتابه ونبيِّه أنْ يصفَ أكثر من نصف المسلمين بل ونصف البشرية بنقص العقل والدِّين والميراث في هذه المقولة الظالمة، وحاشا عاقلاً أن يقولَ بها، والتي كثيراً ما تتردَّد على ألسنة العامة والخاصة كآلية عنف وظلم لا يَطال المرأة كإنسان بل وإنسانية الإنسان أياً كان، لذلك كان لابدّ من إبانة موقف الإسلام الحقِّ في هذا الصدد، والذبِّ عنه وعن أهله بقوة حُجّة الله في وجه تقوُّلات الباطل لا فيما يتعلق بالعنف ضد المرأة فحسب، بل وكل أشكال عنف الإنسان تجاه أخيه الإنسان بشكل عام، وذلك في ضوء البنود التالية من هذه الدراسة.

ثانياً: العنف والتمييز الاجتماعي بين إيجابية المرجعية الإسلامية الحقَّة وسوء فهمها التقليدي

من البديهيات المُسَلَّمِ بها سلفاً أنَّ قاعدة التشريع الإسلامي المستمَدة من القرآن الكريم، والسنة النبوية، واجتهاد الفقهاء المؤسسين الأوائل، قد شكّلت قفزة نوعية كبيرة فيما يتعلق بحقوق النوع الاجتماعي من النساء والرجال على السواء، وشتى فئات المجتمع دون تمييز يُذكر.

فكل أحكام الحقوق والواجبات والتكاليف الشرعية المتعلقة بالعبادات والمعاملات لم تميّز بين أفراد النوع الاجتماعي من رجال ونساء، ولا بين أفراد النوع البيلوجي من ذكور وإناث، ولا بين رجل ورجل أو امرأة وامرأة، أو أيّ إنسان وإنسان آخر أياً كان، كحق المرأة في التملُّك، والذمة المالية المستقلة، والتقاضي، والاختيار أو الموافقة على من ترتضيه زوجاً لها، والإقرار العام بوجودها الاعتباري المستقل كندٍّ وكفء للرجل ومكلفة مثله في كل الحدود والواجبات الشرعية وكل ما يعرف اليوم بالحقوق المدنية بلا استثناء، وهو ما لم يثبت في أي تشريع أو شريعة أخرى في العصور القديمة والوسطى خارج المجتمع الإسلامي حتى مطلع النهضة الأوروبية.

كما أنَّ الخطاب العام الذي وردت به هذه الأحكام والتكاليف والأوامر والنواهي في نَصِّ القرآن الكريم قد ميَّز تمييزاً دقيقاً بين ما يتعلق بالنوع البيلوجي والنوع الاجتماعي، فكلّ آيات وأحكام القرآن الكريم التي يَرِد فيها مفهوم الذَّكر والأنثى غالبيتها آيات وأحكام متصلة بوظائف وأدوار النوع البيلوجي فقط، وهي الأقل، كقضايا التزاوج والحمل والولاد والنفاس والرضاعة، أما ما عدا ذلك من خطاب وأحكام التكاليف والمعاملات والعبادات المتصلة بالنوع الاجتماعي للبشر بصفة عامة فلا فرق في ذلك بين رجل وامرأة، أو رجل ورجل، أو امرأة وامرأة أخرى، أو إنسان وآخر، فالكل سواءٌ في الحدود والتكاليف، وهي الأعمّ والأغلب، ومن ذلك فكرة الخلق في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (سورة الحجرات الآية 13).

فالآية تبدأ بكلمات {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وهو خطاب عام للنوع الاجتماعي من نساء ورجال، وعندما يصل الأمر إلى الحُكم المتعلق بالخلق، وهي الوظيفة والدور المتعلق بالنوع البيلوجي، يَرِد حكمُ الذكورة والأنوثة هنا فقط {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ} ولم يقل من رجل وامرأة، ثم تعود الآية الكريمة إلى خطاب الناس، كل الناس، دون تمييز بالقول: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فالشعوب والقبائل والتعامل والتعارف فيما بينها ومكرمة التقوى عند الله هي مفاهيم عامة للنوع الاجتماعي من رجال ونساء دون تمييز، كما هي وظائف وأدوار اجتماعية أيضاً، ولا مكان فيها للذكورة والأنوثة ولا لوظائفهما البيلوجية، بما في ذلك القضايا السياسيَّة والاجتماعية المختلفة، فقد قال تعالى في سورة النمل في أمر ملكة سبأ على لسان الهُدهد في حديثه مع سليمان: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (سورة النمل الآية 23)، ولم يقل ((إني وجدت أنثى تملكهم)) لبُعد ما بين المفهومين من دلالة لفظية وموضوعية كبيرة جداً، كما أنَّ التعدُّد الكبير للآيات التي يُشار فيها إلى مفاهيم الآباء والأمهات والأزواج والزوجات والرجال والنساء والمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ...إلخ، كُلّها مفاهيم محمولة على وظائف وأدوار النوع الاجتماعي المكتسبة التي لا يختلف فيها قط أيٌّ من الناس عن غيرهم في أحكامها وتكاليفها ومحتوياتها وعقوباتها ومثوباتها الشرعية، وليست محمولة قط على نوعهم البيلوجي كذكور وإناث، لأن الوظائف الاجتماعية للأبوة والأمومة والحقوق الزوجية هي وظائف وأدوار اجتماعية مشتركة ومكتسبة وغير مشروطة قط بالخلق الفطري المتعلق بالذكورة والأنوثة، وهو ما ينسحب على الوظائف السياسية والدينية والإيمانية المتعلقة بالإسلام والإيمان والعبادات والمعاملات ...إلخ.

فقد خاطب الله المسلمين والمؤمنين والأبناء والأزواج والناس والبشر والإنس والجن ...إلخ، في كثير من الآيات الكريمة على صفة العموم وعلى السواءِ لا صفة الخصوص المتعلقة بالنوع البيلوجي لكل من الذكور والإناث على حدة. 
وهو الأمر الذي يتوجب معه التسليم بيقين أنَّ أيَّ تمييز بين إنسان وآخر في الحقوق والواجبات على أساس الجنس أو العِرق أو المهنة هو من باب ممارسة العنف الاجتماعي الذي يمقته العقل والدين الإسلامي ومواثيق حقوق الإنسان.

أنصبة الإرث تؤكد المساواة الاقتصادية بين الرجل والمرأة وليس العكس

ومن بين أهم القضايا المحمولة خطأً على أحكام الإسلام الأكثر شيوعاً وجدلاً، هي قضايا الأحكام المتعلقة بحقوق الإرث للأبناء عن آبائهم والتي تنصُّ بأنَّ للذكر مثل حظ الأنثيين، والذي ورد في سورة النساء في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ ....} ( سورة النساء الآية 10).

وهو الحكم الذي ظنَّ معه الغربيون والمستغربون بأنَّهم قد وجدوا ضالتهم المنشودة لإثبات تحيُّز الإسلام ضد المرأة في حقوق الإرث، ولم يتنبه الكثيرون من فقهاء ومجتهدي الشرع الإسلامي إلى جوهر وعِلّة هذا الحُكم الأكثر ارتباطاً بجوهر العدل والمساواة والبُعد عن التمييز المزعوم حتى يدفعوا به تَقَوُّلَ الغرب والمستغربين، بل لقد ذهب البعض بدلاً من ذلك، مع الأسف، إلى الاجتهاد بغير صواب وبما يتعارض وجوهر الحُكم نفسه، ويبرِّرُ تقوُّلَ المتقولين بغير حق على الإسلام والمسلمين، حينما يقرِّرون بأنَّ عِلّة هذا الاختلاف في أنصبة الإرث قد بُني على عِلة الاختلاف بين الذَّكر والأنثى في الخواص البيلوجية التي يتفوق فيها الذكور على الإناث في العقل والدين والعمل، ومكَّنوا بذلك أعداءَ الإسلام من الوصول إلى ما يبتغون الوصول إليه من إساءة إلى موقف الإسلام من المرأة، والذي ما جاء إلا لينتصر لحقوقها أكثر من غيره من الشرائع السَّابقة، خصوصاً ما يتعلق بحقوق الملكية والإرث والذمّة المالية وحق التقاضي في كل ذلك، وهو ما لم تحصل عليه المرأة في الشرائع الأوروبية إلا مع بداية القرن المنصرم وبعد ألف وأربعمائة سنة من حصول المرأة المسلمة عليه إبان الدعوة الإسلامية وانتصارها.