التمييز ضد المرأة وحقوقها.. بين الإرث الاجتماعي والتشريع الديني (2-3)

السياسية - Tuesday 14 May 2019 الساعة 01:24 am
نيوزيمن، كتب/أ.د/ حمود العودي

مما يؤكد وجهة النظر المغلوطة لدى الغرب الأوروبي تجاه جوهر التشريع الإسلامي في هذا الصَّدد، ونتيجة التأويل الخاطئ من بعض المسلمين أنفسهم، ما جاء في إحدى وثائق برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة في نهاية التسعينات من القرن العشرين عن «الجندر» والغذاء، وهو يتحدث عن التوزيع غير العادل للموارد والمنافع بين الرجال والنساء طبقاً للأنماط والقيم الثقافية التي تختلف من مجتمع لآخر من المجتمعات التقليدية، ويضرب لذلك بالمثل الوحيد لانتقاص حقوق الوراثة بالنسبة للمرأة في المجتمعات الإسلامية وبالنص الانجليزي كما يلي:

Example: in some moslem societies, women inherit property, but men inherit twice as mach as women. the rational given is that men have more responsibilities for the economic maintenance of their families, and are legally required to provide for them. ()

وملخّص دلالات ومضمون هذا النص بالعربية أنَّه «في بعض المجتمعات المسلمة –على سبيل المثال- النساء ترث الثروة، إلا أن الرجال يرثون ضعف ما ترث النساء، والتعليل الذي يبرّر ذلك هو أن الرجال عليهم مسئوليات اقتصادية أكثر تجاه أسرهم وهم قانوناً يستحقون مقابل ذلك» انتهى النّص. والتعليق على هذا النّص من زاويتين:

التمييز ضد المرأة وحقوقها.. بين الإرث الاجتماعي والتشريع الديني (1-3)

الأولى، أنه يذكر أن ((بعض المجتمعات الإسلامية تورث المرأة)) وهو ما يوحي بوضوح بأنَّ بعضها الآخر لا تورث المرأة، وكأنَّ الشّرع الإسلامي يتضمن أحكاماً وتشريعات متناقضة يمكن أن تُطبق في مجتمع دون آخر، وهذا إن لم يكن جهلاً بأحكام التشريع الإسلامي، وهذا الحكم بالذات الذي لا تناقض ولا اختلاف فيه، فهو تجاهل مقصود أو غير مقصود.. صحيح أن بعض المجتمعات ووفقاً لبعض العادات والتقاليد القبلية المُتخلِّفة قد لا تورّث المرأة، أو لا تسمح بنقل الثروة، والأرض بالذات، إلى أسرة زوج البنت، فيقوم الأخوة بتعويضها نقداً أو الاحتفاظ بحقها في أسرة أبيها على ذمة إخوتها إذا ما احتاجت لذلك، إلا أنَّ هذا لا علاقة له البتّة بحكم الإسلام في المسألة قط، وهي مخالفة لحق شرعي.

أما الملاحظة الثانية، فهي التعليل الخاطئ لاستحقاق الرجل ضعف المرأة بأنه تمييز للرجل مقابل ما يتحمّله من المسئوليات والجهود الاقتصادية المتعلقة بالأسرة، وكأنَّ المرأة لا تتحمل شيئاً من هذه المسئوليات المتعلقة بالعمل والإنتاج والإدارة واتخاذ القرار بحكم نوعها البيلوجي، وهو ما يتنافى مع جوهر حكمة هذا الحكم الشرعي من جهة، وجوهر الواقع الاقتصادي والاجتماعي من جهة أخرى، الذي تقوم به المرأة من العمل والإنتاج بأكثر مما يقوم به الرجل في كثير من الأحيان، وبالذات في المناطق الريفية في الزراعة وداخل وخارج المنزل.

والتعليل الجوهري لهذا الحكم الشرعي العادل هو أولاً ما ذهب إليه السيد محمد رشيد رضا في كتابه (حقوق النساء في الإسلام) حينما علّل زيادة إرث الرَّجل بالنسبة للمرأة بأسباب اقتصادية وغير بيلوجية تتعلق بوجوب إنفاق الرجل على زوجته وأولاده وسقوط ذلك عن المرأة في بيت زوجها، فكأنَّ الرجل يأخذ نصيبه ونصيب زوجته وأولاده من تركة أبيه، وتأخذ البنت نصيبها من تركة أبيها وحقها في النفقة من تركة زوجها دون أن تتحمَّل أية مسئولية في الإنفاق، وهي بذلك تحصل في النهاية على نصيب أكبر من أخيها الولد.

وبالرغم من أهمية هذا التفسير للشيخ محمد رشيد رضا، الذي يكتسب أهميته من حيث ارتباطه بوظائف النوع الاجتماعي المكتسبة وعديم الصلة بوظائف النوع البيلوجي الفطرية، إلا أنَّ ربطه بوجوب الإنفاق على المرأة من قِبَل الرجل تعليل غير كافٍ، ولا يرتبط بالعلة الجوهرية والمقصودة من هذا الحكم الشرعي الجليل.. والأصح، في تقديرنا والأقرب إلى جوهر النص الشرعي وعلة الحكم فيه، ليس وجود الفروق البيلوجية بين الذكر والأنثى فيما هو طبيعي أو علة الإنفاق على المرأة من قِبَل الرَّجل، ويقتضي بناءً على ذلك التمييز في الحقوق فيما هو اجتماعي واقتصادي لصالح الذكر في الإرث أو غيره بأية حال؛ بل لعلة أخرى أكثر أهمية وموضوعية تتعلق بالاختلاف فيما هو اجتماعي اقتصادي بحت من حصص الإرث، ويستند هذا الاختلاف الاجتماعي إلى أسباب اقتصادية بحتة تتعلق بالعمل والإنتاج، ملخصها أنَّ البنت التي تنشأ في أسرة أبيها وإخوتها وأمها كطفلة وشابة ويتحملون كافة أعباء تربيتها ومعيشتها ما إنْ تبدأ الدخول في سن العمل المنتج، وهو سن (البطش) في قاموس الفقهاء والمشرِّعين الإسلاميين، حتى تنتقل إلى بيت زوجها وتبطش معه كزوجة وامرأة وأم بقية حياتها في العمل والإنتاج الاقتصادي في أسرة زوجها بصرف النظر عن وظائف نوعها البيلوجية الأخرى كأنثى، ولا يشاركها إخوتها في ناتج هذا العمل أو البطش الاقتصادي، في حين أن تقسيم العمل الاجتماعي يقتضي من الذكر كرجل البقاء والبطش مع أبيه وإخوته، بل وزوجته القادمة من خارج الأسرة وفقاً لنظام الأسرة الممتدة أو المركبة في المجتمع العربي الإسلامي والشرقي بصفة عامة، وبالتالي فإن حصول الأخت على نصف ما يحصل عليه الأخ في أسرة أبيهم بعد مماته هو خصماً على البنات مقابل ما ينفردن به من بطش في أُسر أزواجهن من جهة، وتعويضاً للأولاد عن بطشهم مع زوجاتهم في أسرة أبيهم من جهة أخرى، وهنا تكمن علة حكم الشرع الإلهي هذا، وحكمته القائمة على طبيعة الوظائف والأدوار الاجتماعية والاقتصادية للنوع الاجتماعي من الرجال والنساء والإخوة والأخوات والأزواج والزوجات، والذي لا علاقة له البتة بنوعهم البيلوجي كذكور وإناث ووجود فوارق اجتماعية بناءً على ذلك، وقد استخدم الحكم الشرعي صفة التذكير والتأنيث هنا لربط الحقوق الاجتماعية بما هو ثابت من الخواص البيلوجية لا أكثر، ولا يختلف ما جاء في هذه الوثيقة عما تتداوله الثقافة الأوروبية العامة في هذا الصدد بسطحية وتهكُّم أكثر سذاجة وبُعداً عن الحقيقة.

ومما يؤكد ذلك أن هذا الأمر يمثّل حالة واحدة ولا يمثّل قاعدة عامة لما تستحقه المرأة من كل المواريث الشرعية، حيث قد ترث أكثر من الرجال في كثير من الحالات كما في حالة موت الزوج ولم يكن له أولاد أو كان له أكثر من ثمانية من الرجال، أو غير ذلك من الحالات التي لا مجال لسردها هنا، ما يعني يقين الأسباب والعلل الاقتصادية والاجتماعية وانعدام الأسباب البيلوجية بشكل عام فيما يتعلق بحقوق الوراثة سواءً بالنسبة للمرأة أو الرجل على السواء.

وهو الأمر الذي يتوجب معه علينا فهم جوهر تشريعنا الإسلامي العادل كما ينبغي، وأنَّ أيَّ سوءَ فهمٍ من ذلك القبيل المتفشي في فكر أعداء الإسلام أو المتقولين عليه من أهله بغير صواب لا يشكّل مجرد ممارسة للعنف الاجتماعي بغير حق، بل وإساءة إلى الدين الإسلامي الحنيف نفسه.

ثالثاً: شهادة امرأتين مقابل رجل واحد هو تأكيد لمبدأ المساواة ونفي لعنف التمييز

أما ادعاء نقص النساء عقلاً بالاستناد إلى التناول الخاطئ لحكم الشهادة التي لا تصح إلا برجلين أو رجل وامرأتين، واعتبار ذلك حكمَ نقصٍ بيلوجيٍ في عقل المرأة، فمردود على كل ذلك بالآتي:

لم يقل أحد بأن عدم قبول شهادة الرجل الواحد، مهما كانت حيثيات يقين هذه الشهادة وصحتها كاملة وكافية إلا بشهادة رجل آخر بجانبه، لأن العلة في ذلك هو نقص عقلهما معاً، أو كل منهما على حدة، فإنْ صحَّ الكمال فكان المفترض أنَّ شهادة أحدهما تكفي، وإنْ صحَّ النقص، وهو الأقرب إلى جوهر علة الحكم وحكمته، لأننا بشر خطّاؤون، رجالاً ونساءً، والكمال لله وحده، فهذا يعني أن كلاً منهما يُذكِّر الآخر ويكمِّله، وهو ما ينطبق تماماً على وضع شهادة المرأة حتى تُذكّر إحداهما الأخرى، فالنقص وارد في كلا الحالتين، وليس مَرَدَّه الخاصية البشرية المشتركة بين الرجال والنساء بعدم الكمال فحسب، بل والخاصية الاجتماعية المتعلقة بالمعرفة والخبرة الكافية في موضوع الشهادة أيضاً بالدرجة الأولى.

وعلة الامرأتين مقابل رجل واحد ليس مردها قط أسباباً تتعلق بالنوع البيلوجي للنساء بأي حال من الأحوال، كما يُروَّج خطأً، بل علة تتعلق بالنوع الاجتماعي والمتصلة بظروف وواقع المرأة الاجتماعي في تلك المرحلة التاريخية السحيقة لا بنوعها البيلوجي كأنثى، حيث كانت محرومة من التعليم، وثقافتها وخبرتها في الحياة العامة محدودة، ومعارفها القضائية والاقتصادية والسياسية أكثر محدودية، لا بحكم جنسها كأنثى قط، بل بحكم اضطهاد المجتمع الجاهلي لها وحرمانها حتى من حق البقاء على قيد الحياة عن طريق قتلها وأداً، وبالتالي فإن وجود امرأتين في مقابل رجل واحد لإثبات شرعية الشهادة قد ورد في حالة واحدة فقط وهي حالة المعاملات التجارية التي تقل فيها خبرة المرأة، وهو لذلك من قبيل الترجيح والتحري للحق بالمعني الاجتماعي لا من قبيل التمييز البيلوجي بين نوع المرأة كأنثى ونوع الرجل كذكر، وذلك هو ما ذهب إليه الإمام محمد عبده في تأكيد ذلك بالقول: بأن (المرأة أعمالها غالباً ما تكون محصورة في الأعمال المنزلية، والرجل من شأنه الانشغال بالمعاملات المالية ونحوها من المفاوضات، ولذلك تكون ذاكرة الرجل فيها قوية وذاكرة المرأة فيها ضعيفة، فمن الطبيعي للبشر أن تقوي ذاكرتهم في الأمور التي تهمهم ويكثر انشغالهم بها).

وذلك ما يحدث في كثير من الحالات حينما ترجح شهادة رجلين برجل ثالث أو أكثر أو ترفض شهادة رجل من اثنين لعدم رجاحة الرجل نفسه ونقص فهمه وخبرته بالأمور المتعلقة بموضوع الشهادة، فترفض شهادته أو ترجح بشهادة رجل ثالث وهكذا، يؤكد ذلك إقرار الشرع الإسلامي لتساوي شهادة المرأة والرجل في المواضيع التي تتساوى فيها خبرتهم الاجتماعية بل وترجح شهادة المرأة بمفردها في المواضيع التي تتجاوز خبرتها خبرة الرجل فيها، وبنص القرآن الكريم فيما يتعلق برمي المحصنات من النساء من قبل أزواجهن لقوله تعالى في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)}، حيث إنَّ هذا الحكم الصريح لم يطلب من المرأة أن تشهد ثماني شهادات، ولم يساوِ شهادة المرأة بالرجل لتساوي خبرتهما في موضوعها فحسب، بل لقد رجح شهادة المرأة أكثر من الرجل لذات السبب وذات العلة، لا لمجرد حلول لعنة الله على الرجل إذا كان كاذباً، وغضب الله على المرأة إذا كان صادقاً، واللعنة عقوبة أقسى بكثير من الغضب فحسب، بل وترجيح شهادة المرأة في النهاية والأخذ بها بدلاً من شهادة الرجل لخبرتها الأكثر من الرجل في موضوع الشهادة المتعلقة بالخطيئة من جهة ودرءاً لشيوع الفاحشة من جهة أخرى.