الدكتور حمود العودي يكتب: الثورة اليمنية 26 سبتمبر و14 أكتوبر جاءت لتبقى (1_2)

السياسية - Monday 14 October 2019 الساعة 10:56 pm
نيوزيمن، كتب/أ.د. حمود العودي:

تمهيد:

سبتمبر وأكتوبر كلمة طيبة كشجرة طيبة

إذا ما تذكرنا قول الخالق عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}، فإن ثورة 14 أكتوبر 1963 وثورة 26 سبتمبر 1962 بكلمات مبادئها الستة الطيبة ومنجزاتها الكبيرة، هي ما ينطبق عليها نص ومضمون الآية الكريمة، (بدءاً من التحرر من الاستبداد والاستعمار، وإقامة حكم جمهوري عادل، وإزالة الفوارق بين الطبقات، وبناء جيش وطني قوي ورفع مستوى الشعب اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً، وإنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل، وتحقيق الوحدة الوطنية في نطاق الوحدة العربية، وحتى واحترام مواثيق الأمم المتحدة، وتدعيم مبدأ التعايش السلمي بين الأمم)، فهل توجد من كلمات أطيب من هذه يمكن أن تقال؟ في مقابل ما يزكم أنوفنا اليوم من الكلمات الخبيثة التي ما لها من قرار، بدءاً "من شيطنة" التسنن والتشيع التي لم ينزل الله بها من سلطان، مروراً بأكاذيب الحقوق الإلهية والوراثية في السلطة والثروة من دون الناس، وحتى مفردات الكراهية من "الدواعش والنواصب والروافض والزيود والشوافع والشمالي والجنوبي ...إلخ".

وإذا كان الأهم من كتابة المبادئ العظيمة بالكلمات الطيبة، كمبادئ الثورة اليمنية، هو ما أنجز من هذه المبادئ فذلك ما يتأكد في الآتي:

أولاً: التحرر من الاستبداد الإمامي والاستعمار البريطاني

لم يكن إعلان النظام الجمهوري صبيحة الخميس السادس والعشرين من سبتمبر 1962 في الشمال، وانطلاق ثورة التحرير من الاستعمار في الرابع عشر من أكتوبر 1963 في الجنوب، وتحقيق الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م، وبناء الجيش الوطني المدافع والمحرر للوطن كتطبيق ناجز لنص ومضمون المبدأ الأول والثاني من مبادئ الثورة فحسب، بلْ وتأكيداً للواحدية التامة والمطلقة للثورة، هدفاً وإرادة وبندقية ودماً ومصيراً، حيث لم يكن ولن يكون في مقدور أحدٍ أن ينكر أو يتنكر لحقيقة أن الجنوب قد رحل إلى الشمال بعشرات ومئات الآلاف من الرجال من أجل الدفاع عن الثورة والجمهورية ضد بقايا الملكية والرجعية؛ وأنا على ذلك من الشاهدين، ومنذ النداء الأول لإذاعة صنعاء للشعب لأن يهب للدفاع عن الثورة والجمهورية، وأن ما من مدينة أو قرية وربما أسرة في جنوب الوطن إلا ومنها شهيد أو جريح أو بطل من أبطال الدفاع عن الثورة والجمهورية، في الشمال، والعكس صحيح فيما يتعلق بمسيرة تحرير الجنوب، ودون أن يسأل أحد منهم نفسه أو يسأله أحد غيره عما إذا كان شمالياً أو جنوبياً، زيدياً أو شافعياً، جبلياً أو تهامياً، سنياً أو شيعياً... إلى غير ذلك مما كان يطفح به قاموس الإمامة والاستعمار من لغة الكراهية والتفرقة والمقت بين أبناء الوطن الواحد، وذلك ما يُراد لها أن تبعث من قبورها النتنة اليوم من جديد.

وعلى من أنكر أو يتنكر أن يتذكر أن صاحب أول طلقْة وأول شهيد في حرب تحرير الجنوب الشهيد (لبوزة)، رحمه الله، في جبال ردفان قد كان قبل ستة أيام فقط يحارب الملكية في منطقة المحابشة من بلاد حجة، شأنه شأن المئات والآلاف من أبناء الجنوب في كل المواقع دفاعاً عن الثورة والجمهورية، وأن نتذكر في المقابل من هو "مدرم" الشرعبي و"عبود" الإبي والمئات والآلاف غيرهم من قادة وجنود حرب التحرر في الجنوب من الاستعمار البريطاني من أبناء الشمال، حتى تم الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر 1967، وتوحيد أكثر من عشرين سلطنة وإمارة ومشيخة كان قد كرسها الاستعمار لأكثر من قرن من الزمن. ومرة أخرى لم يسأل أحد منهم قط نفسه ولم يسأله أحد غيره "من هو؟ ولا من أين هو؟" ولا ما حزبه أو مذهبه أو قبيلته؛ أكثر من أنه يمني جمهوري ضد الملكية والرجعية والاستعمار.

ثانياً: ثورة التغيير والتطور الاجتماعي

إن ثمار إنجازات الثورة اليمنية وأُوكلها الطيب لم يتوقف عند تحقيق هدفها الأول في التحرر من الاستبداد الإمامي الملكي المتخلف بإعلان النظام الجمهوري في الشمال والتحرر من أعتى قوة استعمارية عرفها التاريخ في الجنوب، وتوحيد أكثر من عشرين سلطة وإمارة ومشيخة، وبناء الجيش الوطني المدافع عن الثورة والجمهورية فحسب، بل وإنجاز ما لا يقل أهمية عن كل ذلك من التغيير والتطور الاجتماعية على مختلف الصُّعد وأهمها:

1) ثورة التعليم والصحة (بين ما كان وما أصبح)

حيث انتقل التعليم مما يشبه العدم أو ما لا يزيد على خمسين ألف فرد كانوا يحسنون قراءة وكتابة الكتاتيب تحت الأشجار في مجتمع (مملكة الإمام) التي كان يزيد سكانها على خمسة ملايين إنسان -طبقاً لإحصائية محفوظة في جامعة الدول العربية- وما هو أقل من ذلك في سلطنات وإمارات الاستعمار ومحمياته الشرقية والغربية، باستثناء محمية عدن بشكل محدود، ليصل معدل الملتحقين بالعملية التعليمية إلى ما يزيد اليوم على ستة ملايين إنسان في عهد الثورة والجمهورية والوحدة ممن هم في سن التعليم ومنخرطون فيه، في شتّى معارف التعليم الأساسي والثانوي والجامعي والمهني؛ بصرف النظر عن التخريب الكيفي الذي تعرض له ولا يزال يتعرض له اليوم.

كما تم الانتقال بالصحة من اللا شيء على الإطلاق إلى ما هي عليه اليوم -بصرف النظر عما ينبغي أن تكون عليه- والتي لم تكن تتجاوز في الماضي الإمامي أكثر من بعض حبوب "الإسبرين والنوفلجين" التي كان يتصدق بها الإيطاليون على اليمن بعد زيارة الإمام أحمد لها قبل الثورة أكثر من مرة بسنوات قليلة للاستجمام وعلاج وأسرته، والتي لم يكُ يحصل عليها المريض -من بقايا المستشفى الذي خلفه الأتراك بصنعاء (الجمهوري حالياً)- إلا بحكم قضائي بأنه "فقير متربة"، وغالباً ما كان يموت المريض قبل صدور الحكم بالاستحقاق لحبوب "النوفلجين أو الإسبرين" من عدمه، ومن لا يصدق عليه الرجوع إلى وثائق "الدكتور أحمد الحملي"، رحمه الله، مدير عام التوعية الصحية في نفس الإدارة أو لدى أسرته، حيث كانت تلك الأحكام وقصص أصحابها تغطي جدران إدارته، ولم يكن الوضع ليختلف كثيراً في الجنوب عن الشمال -كما قد يتوهم البعض- إن لم يكُ أسوأ في عموم الجنوب؛ مع الاستثناء النسبي لمدينة عدن أو محمية عدن كمحطة تجارية دولية مرتبطة بالهند إدارياً واقتصادياً.

2) ثورة المواصلات والاتصالات بين الماضي والحاضر

مواصلات واتصالات الماضي: أما الانتقال من مجتمع عزلة وتخلف "دولة أحمد ياجناه" إلى المجتمع الحر الديمقراطي التعاوني، فقد قضى فيه على العزلة الداخلية، التي لم يكُ يعرف الإنسان معها –من امتداد وطنه والعالم من حوله- أكثر من مسافة رؤية عينيه، أو "حِمَا" قريته، وكان من ينتقل من صنعاء إلى تهامة -مثلاً- أو البيضاء أو الجوف وحتى صعدة -في الخدمة الوظيفية للإمام؛ كعامل أو حاكم أو موظف- كان يقوم بحصر تركته، وكتابة وصيته لأهله، لأنه كان يعتقد -عن يقين– أنه بصدد الانتقال إلى عالم آخر؛ يتضاءل معه أمل العودة، لا لمشقة سفر الليالي والأيام، مشياً على الأقدام، أو استخدام بعض الحيوانات، في طرق جبلية بالغة المشقة، والتعرض للأمراض وانقطاع التواصل مع أهله، وشح ما يعطيه الإمام من المرتبات فحسب، بل ولحدوث أم الكبائر لو غضب عليه الإمام وعزله من عمله، لسببٍ أو لآخر، دونما الاحتفاظ له بأية حقوق وظيفية تذكر؛ حتى بما يؤمِّن عودته إلى أهله، لأنه –وبحسب التسمية الرسمية له– مجرد "خادم للإمام" تم الاستغناء عنه، وهو الأمر الذي كان يدفع بالكثير من هؤلاء –فقراً وخوفاً- إلى التكيُّف مع المكان الذي يعملون فيه، أو أُستغني عن عملهم فيه.

وكان من منهم "الشرَعِيون" والأدباء والشعراء، والمثقفون، فيستقرون مع عائلاتهم إذا كانت معهم، أو يتزوجون من نفس المنطقة إن لم تكن معهم في الغالب، وما أكثر الأشخاص والأسر التي انتقلت من العاصمة أو أي منطقة، واستقرت في منطقة أخرى بهذه الطريقة.

صنعاء تغلق أبوابها قبل مغيب الشمس!

وإذا كان هذا هو حال صفوة القوم في مملكة الإمام! فما بالنا بعامة الناس ممن لم يكونوا يعرفون من الدنيا أكثر مما يتجاوز مسافة الرؤية "وحِمَا القرية" كما سبقت الإشارة -بل ومن يُصدّق أن صنعاء -عاصمة الإمام- كانت تغلق أبوابها قبل غروب الشمس بعد تفتيش "العَسس" وحرس الليل للمدينة؛ للتأكُد من عدم وجود "غرباء" من القبائل من المناطق المجاورة الذين عليهم العودة إلى قراهم أو المبيت خارج سور المدينة!!

ولم يكُ حال بقية المدن والحواجز اليمنية بأحسن حال من صنعاء إذا لم يكُ هو أسوأ في وقت كانت الحداثة تدق أبواب الدنيا كلها بعنف مملكة إمام اليمن، يحيى وأحمد "يا جناه"، لقد كانت هي حياة الموت قبل الموت، وما ينطبق على الشمال في هذه الحالة؛ لا يختلف كثيراً عما كانت عليه الحال في الجنوب إن لم يكن أكثر، ومن لم يصدق.. عليه أن يتذكر -أو يسأل شهود العيان من الذين ما يزالون على قيد الحياة- كيف أنه إذا كان من حق المواطن أن يتنقل من أي منطقة في "مملكة الإمام" في الشمال إلى عدن دونما أي قيود؛ فإن المواطن في "الحوطة" أو "جعار" -ناهيك عن شبوة أو حضرموت أو المهرة- لم يكُ ليملك نفس الحق؛ إلا بإذن من السلطان، وموافقة الإدارة البريطانية في عدن مع تقديم الأسباب والوقت المسموح به للبقاء في المدينة –باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الهند- أما ما عداها –من مناطق الجنوب والشرق– فهي دول وعوالم خارج التاريخ، حيث لا تعليم ولا صحة ولا مواصلات ولا اتصالات تذكر إذا ما استثنينا "محمية عدن" كمحطة تجارية دولية كما سبقت الإشارة.

ثانياً: أين صورة الماضي الذي ولّى من الحاضر الذي تحقق؟

أين كل ذاك الذي كان من هذا الذي تحقق بفضل الثورة والجمهورية والوحدة التي أتت "أوكُلها الطيبة كثمرة طيبة من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء" بدءاً بتحطيم عزلة الداخل، بدءاً بحالة صنعاء عاصمة مملكة الإمام التي كانت تغلق أبوابها قبل غروب الشمس ولا يسمح للغرباء من القبائل والمواطنين القادمين إليها نهاراً من المناطق المجاورة بالمبيت داخل المدينة أو القرية الكبيرة على الأصح، وفيما لا يتجاوز الخمسة كيلو متر مربع من المساحة وخمسين ألفاً من السكان، لتصبح اليوم بفضل الثورة والجمهورية على امتداد دائرة يزيد قطرها اليوم على خمسين كيلو متراً وأكثر من ثلاثة ملايين نسمه -وهو شأن كل المدن والحواضر اليمنية في عهد الثورة والجمهورية- مروراً بثورة تنموية تعاونية شعبية ديمقراطية في مجال الطرقات التي تمكنت في عقدي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي من شق أكثر من خمسين ألف كيلو متراً من الطرق في أكثر مناطق اليمن السهلية والجبلية وعورة ومشقة في العالم، وتحدياً لقدرة الإنسان على تحدي الطبيعة من حوله، ناهيك عن مئات بل وعشرات الألوف من الكيلو مترات من الطرق الإسفلتية التي نفذتها الدولة، ورفعت بذلك العزلة عن كل قرية في اليمن، وصولاً إلى ثورة المواصلات والاتصالات التي جعلت من اليمن مركزاً دولياً لتقنية الاتصالات العالمية في ثمانينيات القرن الماضي بفضل الثورة وجهود الرجال، من أمثال الرجل طيب الذكر المهندس أحمد الآنسي وزير المواصلات الأسبق، وذلك بدلاً من ظلام وعزلة الماضي التي كانت تضطر المواطن لكي يتسلم رسالة من ابنه أو أبيه في المهجر أو يرسل إليه رسالة أن يغادر قريته إلى عدن وقضى عدة شهور لعمل ذلك، وحتى توحيد أكثر من اثنين وعشرين سلطة وإمارة ومشيخة أسسها الاستعمار على مدى أكثر من قرن من الزمن وصولاً وحدة الوطن كله في الثاني والعشرين من مايو 1990.