وأنت تتابع الخطب الدينية، والخطابات الثقافية، في اليمن، لا تدري بالضبط: هل رجال الدين والنخب المثقفة هي التي تقود الجمهور، وتصنع الرأي العام، أم أنها تابعة للجمهور وصنيعة الرأي العام.!؟
التأثير متبادل لا شك، لكن الظاهرة الملفتة هو التأثير الجارف للشارع على النخب الدينية والثقافية، ما يفسر الضحالة والغوغائية والسعار والتفتت الشامل الذي يغرق العملية برمتها:
خطيب الجامع، بدلاً من الأمر بالحب، والنهي عن الكراهية، وتكريس علاقة المسلم بالله، يأمر بالكراهية، وينهى عن الحب، ويكرس علاقة المصلي بالكهنوت، ويطلب منه في نهاية الخطبة التأمين على دعائه على "أعداء الله الكفرة" الذين يصلّون في الجامع المجاور أو المدن الأخرى.!.
هو بهذا يداهن المصلين.. كثير من المصلين، يحبون الإثارة، ويريدون خطباً حماسية ملتهبة تبدأ باشعال انفعالاتهم تجاه قضايا مفتعلة، وتنتهي بالدعاء بالنصر والتمكين لإخواننا المجاهدين: السنة أو الشيعة في اليمن أو العراق وليبيا وسوريا.. وغيرها!
المثقف. بدوره. قد يقع في نفس الفخ، كما في مواقع التواصل الاجتماعي، الإعجابات "اللايكات" تجعل القضية على المحك العملي التفاعلي المباشر، بين الطرفين، المثقف الذي ربما كان على درجة عالية من الاطلاع والحداثة والعلمنة، قد يخسر نفسه من أجل أن يكسب الجمهور، ويتخلى عن قناعاته الناضجة، ويتبنى قناعات الرأي العام. ويتحول إلى بوق للشارع لا العكس!
هذا المثقف. بدلا من أن يجعل الجمهور يتبنى قضايا حقيقية لائقة، ويلقنه مطالبه السياسية الناضجة، ينتهز الفرص لركوب الموجة العابرة، وتبعا لذلك قد ينخرط في التحريض على العنف والاجتثاث والاحتراب السياسي والعسكري، ويؤجج للعنصرية العرقية والطائفية والمناطقية.. كأي شخص بسيط في الشارع.!
هو بهذا يداهن القراء والمتابعين.. يحابي الشارع، ويتزلف لمراكز القوى التقليدية، ويجاري توجهات وسائل الإعلام ومواقع التواصل ورغبات الشارع العام.. فضلاً عن تزويق القناعات الخاطئة، وتزييف الوعي، وركوب الموجات الشعبية العابرة.!
الجميل أن الجمهور التقليدي في اليمن، وفي جزء كبير منه، أذكى من كثير من المثقفين ورجال الدين، ويفهم اللعبة جيدا، وإلا لكانت اليمن اليوم قد أصبحت غابة واحدة مشتعلة، كما هو الحال في مدينة تعز التي جسدت النموذج العملي لهذه المعضلة الدينية الثقافية.
مأرب المنطقة الأكثر تقليدية في اليمن، كانت أكثر نضجا خلال هذه السنوات العصيبة من هذه المدينة التي كانت عاصمة للثقافة في اليمن، ووقعت في فخاخ الأصوات الثقافية والدينية الانتهازية المداهنة.
كذلك. الغالب على الشعب اليمني كغيره من الشعوب، أنه يثق بنخبه الدينية والثقافية والسياسية، وينقاد لها، وإن كان كثير من النخب تنقاد للشارع، أليس ملفتاً أن نجد علمانيين، وحتى أحزابا علمانية عريقة، تركت أيديولوجياتها التقدمية، وتبنت مشاريع الجماعات الكهنوتية المسلحة والمتناحرة، تبعا لموجة المد الإسلامي العارم منذ عقود؟!
في كل حال: رسالة المثقف والمتعلم بشكل عام، هي التنوير والتغيير، والارتقاء بثقافة ووعي وفكر وذوق الجمهور، إلى مستواه، لا الهبوط إلى مستوى ثقافة ووعي الجمهور، ومجاراة رغباته، وإطراء نزواته ومدح أخطائه، واسترضائه واستقطابه لصالح القوى والمشاريع الرجعية المدمرة.
قاعدة "الجمهور عاوز كِدَهْ ".. هذه القاعدة السياسية التجارية سيئة السمعة، أحالت المثقف ورجل الدين، وحتى المبدع والفنان إلى مقاول رخيص، يتوسل رضا الناس، ما أنتج دينا مشوها وفناً هابطاً، وثقافة مضروبة، وتسببت بإفساد الدين والفكر والسياسة والفن والوعي والذوق العام.