في ربيع عام 1989 عدت من "براغ" إلى "موسكو" بعد أن حضرت مؤتمر "الكوميكون"، أي مجلس التعاون الاقتصادي للدول الاشتراكية، والذي عقد هذه المرة في "براغ" على مستوى رؤساء الوزارات.
كانت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية عضواً مراقباً في المجلس.
في ذلك المؤتمر، خيّم السكون على اجتماعات المجلس على غير العادة، وبالرغم من الابتسامات المتبادلة بين الحاضرين إلا أنها كانت تخفي حالة من الكآبة والترقب.
لم تكن هناك أوراق كثيرة، ولم يسمح سوى بتواجد إعلامي محدود.
شارك في المؤتمر كل رؤساء وزارات الدول الأعضاء فيما عدا دولة الاتحاد السوفييتي التي مثلها عضو المكتب السياسي وزير الخارجية يومذاك "شيفرنازدة".
اكتفى رؤساء الوفود بإلقاء كلمات فيها قدر من التوتر، وبدا من محتوياتها أن هناك أزمة عميقة في المنظومة الاقتصادية مصاحبة للمزاج السياسي المضطرب الذي أخذ يتشكل في أكثر من بلد وخاصة بولندا، المجر، رومانيا، تشيكوسلوفاكيا.. وكانت يوغسلافيا قد سبقت الجميع، وهي البلدان التي رأى رؤساء وفودها عدم جدوى بقاء المجلس، وطالبوا بالبحث عن بدائل تلبي الحاجة لمتغيرات جديدة، وكانت كوبا أشد المعارضين.
أما ألمانيا الشرقية فقد تحدث رئيس وزرائها بغموض شديد حينما أشار إلى أن المعادلة أصبحت تعج بمجاهيل أكثر من اللازم لدرجة يصعب معها الحل، لكنه دعا رفاقه إلى التريث.
انتظر الجميع كلمة شيفرنازدة.. تحدث عن "البرسترويكا" التي يمر بها الاتحاد السوفيتي، وكيف أن محتواها يقدم حلاً لهذه الأزمة العميقة باحترام خيارات الدول، مع تأكيده على أن النظام الاشتراكي هو أفضل الخيارات.
حمل خطابه رسائل مبهمة على نحو بدا معه أنه لم يكن يستطيع أن يقول أكثر من ذلك.
لم يصدر عن المؤتمر أي بيان، لكن كان واضحاً أن "المجلس" يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأن الجميع قد اقتنع بأن هذا المؤتمر هو اختتام مرحلة من التعاون الذي استمر من عام 1949، وبقي حلف "وارسو" العسكري الذي لم يكن التنبؤ بالطريقة التي سيتم التعامل بها معه ممكناً حتى ذلك التاريخ.
في موسكو غادرت الفندق صباحاً لألتقي بالأخ علي البيض، الذي كان ينزل في تلال لينين، وجدته ومعه ملف كبير ينتظر السيارة التي ستقله للقاء "جورباتشوف" الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي.
شرحت له نتائج المؤتمر، وأن قرار حل مجلس التعاون الاقتصادي قد اتخذ كما يبدو، وأن مرحلة جديدة من التغيرات تلوح في الأفق.
في المساء اتصل بي بعد لقائه جورباتشوف، وقال لي إنه سأله عن مصير مجلس التعاون الاقتصادي، وأن جورباتشوف أبدى استغرابه الشديد من إشاعة حل المجلس.
لكن الأمور بعد ذلك سارت في الاتجاه الذي طالبت به دول وسط أوربا الاشتراكية.
تم تجميد عمل المجلس، ولحقته التداعيات السياسية المعروفة.. وتم حله عام 1991.
ويبقى السؤال: هل كان جورباتشوف يلاحق هذه التحولات المتسارعة ويتعاطى معها كأمر واقع أم أنه كان هو الصانع الأول لها؟!!
ستقال في هذا الموضوع آراء كثيرة، منها أن إرهاصات مهمة سبقت جورباتشوف ومهدت لنشوء أرضية سياسية واجتماعية واقتصادية ونفسية في بلدان اشتراكية كثيرة أوحت لجورباتشوف بفكرة البريسترويكا التي اعتقد أنها ستفتح الأبواب إلى معالجة الأزمات البنيوية في النظام الاشتراكي برمته، لكنها فتحت الأبواب إلى طريق مختلف، لم تستطع معها الأيادي المرتعشة من ضبط المسار.
غير أن ما سيتم الاتفاق عليه من قبل المؤرخين هو أن الغرب أخفق في التعامل مع هذا الحدث التاريخي الكبير، وفوت فرصة لا تتكرر في بناء نظام دولي عادل ينبذ الحروب ويمنع العودة إلى الحرب الباردة.
وهو ما يتوجب على الغرب أن يعيد النظر في بنيته ليكتشف الخلل.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك