في الداخل شمالاً، أسقطها الحوثي بالضربة القاضية، وحتى من بقي من نخبها في صنعاء فهو يحتمي بالهامش حتى لا يرى، فقط لكي تمر الأيام بانتظار المجهول.
تقاطرت النخب الجمهورية على السفر، انتقل كادر الدولة الوسيط إلى الأردن ومصر والسودان وماليزيا وغيرها.
وتميزت مصر بأن التحق بنخب المناصب الوسطى فعاليات وأحلام الحياة الجمهورية من عائلات وخدمات ومهن.
هذا افتتح مطعماً، وذاك متجراً، وثالث مكتبة.. الاشتغال الثقافي الذي جف في اليمن أنبت عروقاً له في قلب القاهرة.
مكاتب وإصدارات، وإن لم تتطور حتى الآن إلى حراك ثقافي فالقاهرة اليوم غيرها بالأمس، لكن مجرد تنفس الكاتب والكتاب الجمهوري في قاهرة المعز.. حياة.
الجمهورية في اليمن تكونت جنيناً في القاهرة، وهي تعود إليها اليوم..
فيها بدايات خاطئة وفيها أفكار تتخلق صواباً.. وفيها تشكيل لم تتحدد ملامحه بعد.
لا يزال مرتب الشرعية هو مصدر حياة الجمهورية في الغربة، لكن هناك حياة موازية تنمو.
فاجأتني هذه المكتبة، فرع لخالد بن الوليد، المكتبة التي لمعت في وسط صنعاء خلال آخر سنوات الجمهورية.. ها هي اليوم تزهر في القاهرة.
عبدالسلام الشريحي، لم يكمل عامه الأول في القاهرة حتى أصدر روايته عن يوميات العذاب الوطني مع الحوثي.
كتب فيها ما لم ينشره وهو في صنعاء..
عشرات الإصدارات أزهرت وطناً جمهورياً في رفوف ثلاث مكتبات يمنية احتمت بالقاهرة من ثقافة الثورة الإيرانية التي اجتاحت صنعاء.
وهذه رواية صديقي الذي فاجأني جداً بها، بلال أحمد صديق وأخ عشنا معاً في سكن طلابي واحد، في غرفة واحدة، تقاسمنا الاستخفاف بالظروف لسنوات ثم ذهب كل منا لحال سبيله.
درس في كلية العلوم لكنه أظهر مهارة وإبداعاً في سوق التأمين، وحين التقيته مرة أخرى بعد 15 سنة شدني إلى ميدان الرياضة، محلل رياضي الذي لن تجد جمله من أي محلل متخصص، وأخيراً ها هو يصدر نصاً مدهشاً، أظهر ما في شخصيته من امتزاج اجتماعي، فليس مجرد كتابة ما تضمنته روايته هذه، فهو القادم من عدن الذي عاش في صنعاء، بعد أن صقلته الحديدة ومنحته عاطفتها وانفتاحها.
وبعد رفض قطعي للاغتراب طيلة حياته، فهو يودع ويستقبل لكنه لا يقبل تغيير يومياته، كتب ذات يوم عن مهارته العاطفية في وداع الناس.
لكن الحوثي عصف بهذه الجمهورية، التي كانت هي لون الغروب في سماء الحديدة، فالجمهورية بنت الحديدة وصوتها.
الجمهورية ليست هيلمان الدولة في صنعاء بل ابتسامة أهالي التهايم صباح سقوط الإمامة.
وفاجأني صديق ذات يوم، برسالة أن بلال سيسافر خارج البلاد، وكان هذا خبراً كبيراً، خروج بلال هو مثل حكم على وصول التحول في البلاد إلى مداه.
هذا الرجل ما كان يغادر مربعه بين الزبيري وحدة.. لا يحب الترحال، لكنه رحل.
ذات يوم في صنعاء قبل 2017 اعتقله الحوثيون لأنه كان يصور لون السماء، ولم أصل إليه في معتقله إلا وقد هو مخزن مع حراسة المعسكر، سيتفاهم مع الجميع لكي يستمر في جدوله، الأهم أنه لا يغادر.. ثم هاجر البلاد بكلها.
ومن غربته كتب هذه الرواية "على ضفتي المجرى" والتقيتها فيما بقي من الجمهورية اليمنية أرففاً في مكتبة بالقاهرة.