عبدالله الصعفاني
حكمة “مجنون” ودراماتيكية “متسوِّل”
في مقال نشرته صحيفة (اليمني الأميركي)، لسان حال المهاجرين اليمنيين في الولايات المتحدة الأمريكية كنت كتبت تحت عنوان “الحوالات المنسية.. اضحك مع شركات الصرافة”.
واستشهدت في السياق بالمجنون الذي تحدَّث مع قناة فضائية، فَسَبق جميع عقلاء اليمن إلى التحذير من جريمة عدم إبلاغ مستحقين بمبالغ مالية لم تصل إلى أصحابها، وإنما استقرت في شركات الصرافة بفعل فاعِلين.
* السبق الصحفي التحذيري للمجنون جعلني أسأل وأنا أختار فكرة هذا المقال.. هل أصابني الجنون أم جُنّ الناس من حولي.. وهل أنا بما سيأتي من كلام “رايح أم أنني ذاهب؟”..
* لقد وجد الداعي لكم بطول العمر نفسه شاهدًا على حكاية تؤكد أننا نعيش زمنًا ابن 66.
زمنًا اختفت فيه وسيلة البحث الحاذق عن الرزق لدى مفكرين ومنظّرين، لكن متسوِّلاً في حكاية اليوم فرض نفسه بطلاً لفيلم دراماتيكي..!
أي والله.. لقد كان المتسول هو البطل..
* ولا أخفيكم.. لقد ترددتُ في الكتابة حول ما يقوم به نجم هذه المقالة الاستقصائية الناقصة، لسببين:
الأول.. احترامًا لمن سيقول منكم: مالك يا ابن صعفان..؟.. تركت كل مشاكل البلاد وما نعيشه من فساد احترابي وسياسي وإداري وهرولت باتجاه متسوِّل على باب الله الكريم.
والسبب الثاني للتردد.. خوفي من أن تكون الكتابة حول متسوِّل سبباً في تحريض أهل الخير على الشُّح تجاه المساكين.
وبهذا أكون من قاطعي الرزق وحاجزي المساعدة، ومن “الذين يمنعون الماعون”.
ولكن أرجو أن تتسع صدوركم لحكاية كنت شاهدًا حضوريًّا عليها، ولم أستطع القفز عليها..
* يُسلِّم إمام المسجد لصلاة المغرب فينهض أحدهم في حالة انحناء شامل، تظهر عليه إعاقة في الظهر وشلل في يدين، إحداهما تتجه بكفها إلى الأعلى والثانية إلى الأسفل، وفي نفس اللحظات تستقر دمعة واضحة على خدِّه الأيمن وهو يشكو حاله بطريقة مؤثرة تمزق نياط القلب، فيقدم له المصلون ما جادت به جيوبهم وعواطفهم.
والمشهد إلى هنا عادي ومألوف لولا صديقي محمد البوني الذي انتظرني في صوح المسجد ليقول لي: شوف.. سبق أن شاهدت هذا الشخص يصنع ذات المشهد، فتابعته أنا وشخص آخر لنكتشف أنه بعد مغادرته للمسجد بحوالي خمسين مترًا اعتدل في مشيته، وواصل سيره مثل الحصان الشارد.
* الله يسامحك يا صديقي، وأنت تستنفر عندي قديم التحقيقات الصحفية الاستقصائية، وتقول لي: تابعه، وستتأكد من كلامي.
* تحركت بعده.. وفاجأني بحالة التمويه وهو يتجه من طريق ثم يعود منها إلى طريق آخر، ثم يعتدل، ثم يمشي، وكأنه الرمح السبئي الذي لم أتعرف عليه بعد.. والله يلعن الوسواس الخناس الذي قال لي: أكمل متابعة الحكاية.
وانطلق الرجل نحو مسجد آخر مع بعض الوقفات حتى يأتي موعده مع صلاة العشاء في مسجد آخر.. هناك وجدت نفسي خلفه، وكأنني المحقق كونان.
وما إن سلَّم إمام الصلاة حتى قام الرجل بذات وضعيته عقب صلاة المغرب، وقام بذات المشهد ونفس الدمعة اللامعة الثابتة، وظهر المصلون كأنهم أمام مشهد تراجيدي في بكائية تمثيلية في فيلم هندي تراجيدي.
* وأشهد أن المصلين كانوا هذه المرة أكثر عاطفة وكرمًا، حيث تساقطت الأوراق بفئاتها المختلفة ليصح القول: رزق المتسولين الممثلين على المصلين الطيبين غير الضالين.
* ما لفت نظري أن شابًّا حينها طلب من المصلين مساعدته لم يحصل على شيء، ربما لأن المصلين قالوا: هذا شاب، يروح يشتغل، ولم يفكروا في ما إذا كان يستحق العون فعلاً لتكون مشكلته كما رأيت أنه لا يجيد تحريك مشاعر أهل الخير.
* في باب المسجد.. توقفت في الحديث إلى صديق فلم ألاحظ مغادرة بطل هذه الحكاية الممثل للمسجد.
ولا أخفيكم، لقد داهمتني رغبة اللحاق به ليس للتأكد من أنه فعلاً بخير، فلقد تأكدت أنه يمتلك روح الشاب الذي يهز الباب، لكنني وددتُ لو أعرف هل قام بتشطيب الدور الرابع من عمارته الثانية أم لا..؟
* ومع طلب العفو من الله لأنني تابعته مستسلمًا لفضولي الصحفي، أكرر مخاوفي من أن يكون في سردي هذه الحكاية الواقعية تأثيرا سلبيا في مواقف أهل الخير نحو مساكين حقيقيين، ولكن.. هي دعوة لأنْ يتحقق أهل الخير من أوضاع الفقراء المستحقين ويسألون عن أحوال فقراء ملتزمين بيوتهم، و”لا يطلبون الناس إلحافًا”.. فقراء لا يستحضرون أيّ مشاهد من فيلم الشهد والدموع.
* وأما بعد..
أيها الساسة اليمنيون، داخل الوطن وخارجه.. أرجوكم وأتوسل إليكم:
أوقفوا كل شرارة للحرب.
اجنحوا للتفاوض الذي يؤدي إلى السلام الحقيقي، وإلى تنمية حقيقية يختفي منها فساد المال وفساد الإدارة والسياسة، ليتراجع عدد الفقراء والمتسولين، ويقل عدد ممثلي التسول كبارهم والصغار، وتنحسر أعداد من يتألمون في منازلهم.
إلى هنا ويكفي عبثًا وتكفي المعاناة.
وليكن مطلب جميع القادة والنُّخب السلام والتنمية التي يأمن الناس فيها من الجوع، ويأمنون بها من الخوف.
*نقلا عن موقع اليمني - الأمريكي