محمد المساح شاب خرج منتصف الستينات في بعثة طلابية إلى القاهرة. اندغم في الحركة الطلابية المصرية كواحد من أبناء مصر. ومحمد المساح ابن حركة القوميين العرب، الفقير إلا من النبل والقيم والأخلاق- يكاد أن يكون يسارياً بالفطرة. وميله إلى اليسار يعبر بعمق عن المنبت الاجتماعي، والأشواق الإنسانية العظيمة.
تفتق وعي المساح الطالب بكلية الإعلام على القصيدة الحديثة (قصيدة النثر) بخاصة، وعلى الفكرة الحديث بصورة عامة، وامتلك موهبة الإبداع؛ فكان قلماً جباراً.
كتب القصة القصيرة، وبرع في رسم «حواري صنعاء» بأزقتها وفتياتها «المشرشفات»، والمجللات بالسواد، وقرأ عميقاً حالة الفلاح اليمني، والقرى الجائعة المحاصرة بالتيفود والمظالم والتخلف، وبقي ابن المساح وفياً للمزارع الذي يحرث الأرض والثور والحمار الذي جعل منه لازمة التخاطب، فما إن تلقاه حتى يبادرك: «يابن حماري!»، أما إذا سبقته بالجملة (القنبلة) فقد أمسكت بزمام الأمر.
محمد المساح نقي نقاء الضمير، ومخلص كالحليب، ووفي كالماء، ورائق كالمحبة. إنسان بسيط بساطة السماء، وصادق كبسمة الأطفال، وقريب إلى الوجدان. يا محمد المساح أين غبت؟ نشتاقك كقهوة الصباح، ودعاء المساء، وشقاوة ابن الأرض. تركت في مصر ذكريات لا تنسى. فكلما ذهبت إلى مصر، والتقيت بالرائعين: بدر الرفاعي، حلمي سالم، وجمال الريان، ومحمد صالح، وسمير عبد الباقي – انفتحت سيرة ذكريات مليئة بالشقاوة، والفتوة، والذكاء، والحب.
عدت بعد التخرج إلى عدن، ثم غادرتها إلى القرية. فلم تكن عدن –حينها- تجسد المثال الذي تطمح إليه. جئت إلى صنعاء، شاركت في إصدار أول عدد لمجلة «الكلمة» التي أصدرها الصديق العزيز الدكتور محمد عبد الجبار، وكانت بصماتك في افتتاحية العدد الأول جلية.
تسلمت لفترة قصيرة بعد العزيز الناقد والشاعر الكبير عبد الودود سيف رئاسة تحرير «اليمن الجديد»، كما أسهمت في تأسيس ملحق «الثورة الأدبي»، ورأست لمرتين متتاليتين تحرير صحيفة «الثورة».
تربع عمودك في الصفحة الأخيرة من الثورة بعد عودتك مطلع السبعينات، وكانت افتتاحية «الثورة» للفقيد الكبير الصحفي والقاص المبدع محمد ردمان الزرقة، إلى جانب نثريتك (لحظة يا زمن)- هما أروع ما تقدمه الصحيفة على مدى أكثر من عقدين من الزمن.
كانت النثرية (اللحظة) من البدايات الباكرة لقصيدة النثر، لكنها لم تلقَ الإنصاف ككل الفلاحين المحرومين من حق المواطنة حتى اليوم.
لقد امتلك المساح تجربة قاسية وعميقة في الحياة، واستطاع بموهبة كبيرة نثرها على صدر صفحات الصحف والمجلات، وهو -على غزارة إنتاجه في القصة القصيرة، وقصيدة النثر- لم ينشر شيئاً من إنتاجه، وهو قليل الاهتمام –حد النسيان- لإبداعاته الغزيرة والغنية.
والواقع أن للمساح ديناً في رقبة الدولة اليمنية التي عمل معها أكثر من ثلاثة عقود، وتحديداً في صحيفة «الثورة»، وله دين مضاف ومسئولية أدبية وأخلاقية في ذمة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي كان محمد أحد واضعي لبناته الأولى. أما نقابة الصحفيين فهي المسئول الأول؛ لأنها الابنة البكر لجهود المساح الذي كان النجم اللامع في مؤتمرها الأول، وحاز على أعلى الأصوات بعد فقيد الصحافة الكبير عبد الله أحمد الوصابي.
محمد المساح مبدع كبير، وإنسان مناضل ورائع يشرق في لحظة من الزمن، ثم يغيب دون أن يهتم به أحد. يتحمل تلاميذه وزملاؤه في صحيفة الثورة والإعلام مسئولية تسوية وضعه ودرجته. فقد تكرم الأخ الرئيس علي عبد الله صالح في منتصف العام 1990م بعد الوحدة بمنحه والفقيد الكبير محمد البابلي درجة وكيل؛ بالتماس من قبل النقابة الصحفية التي أسهم في تأسيسها، وبمتابعة من قبل العزيز علي الشاطر. وكلنا يعرف أن تلاميذ المساح قد وصلوا إلى أعلى الدرجات.
أما اتحاد الأدباء والكتاب ونقابة الصحفيين فلا أقل من تكريم هذا الرائد، والقيام بتجميع إبداعاته من قصة، وقصيدة نثر، أو أقصودة - حسب نحت العزيز زين السقاف – ونشرها.
ليس هناك ما هو أفضل من تحية المبدع في زمن يحتاج فيه إلى العرفان بالجميل، وإلى تحية طيبة، و«لحظة يازمن».
من صفحة الكاتب على فيسبوك