من تبعات هذه الحرب في اليمن تجريف الوسط الأكاديمي وإفقاره وصولاً إلى ترويضه وتسييسه.
سأكتب بعض النقاط السريعة التي تشرح المآل الكئيب.
هناك انهيار للكم والنوع: فقدان أساتذة أكفاء إما موتاً غبناً وقهراً وجوعاً ومرضاً أو هجرة أدمغة، تغيير في المناهج حتى إن المواد الأيديولوجية الجديدة المفروضة تصل إلى 15 مادة في جامعة صنعاء. وتقليص مدة الدراسة وتخفيف المحتوى، زيادة كلفة على الطلبة قادت إلى تسرب جامعي مهول. على سبيل المثال عدد الملتحقين في السنة الأولى في أقسام كلية الآداب انخفض إلى مستوى لا نظير له لدرجة أن بعض الأقسام توشك أن تغلق تماما لغياب متقدمين في صنعاء وذمار وإب. بدل ما كان المتقدمون بالألف في كلية الآداب جامعة صنعاء أصبحوا بالمئات. إفقار النظام التعليمي الجامعي العام مقابل إنعاش النظام المدفوع في خصصة غير مباشرة وبلا قانون تحرف الجامعة عن مهمتها الاجتماعية وانحراف عن قيمة العدالة الاجتماعية وتوزيع الفرص التي أنتجها النظام الجمهوري. تخيلوا أن هناك دبلوم عالي في جامعة صنعاء رسومه تبلغ 3 ملايين ريال أي قرابة 8 آلاف دولار.
عدم دفع رواتب وتلاعب بالترقيات والتعيينات على أسس سلالية في صنعاء ومناطقية وحزبية في محافظات أخرى، إخلال بقانون التعيينات والترقيات وتعيين رؤساء الأقسام وعمداء الكليات ورؤساء الجامعات.
بدل ما يدفع الحوثي رواتب الدكاترة والأساتذة أخرجهم إلى الساحة في طابور الصباح يطلقون الصرخة. وبدل ما تتحول عدن إلى جامعة اليمن الأولى وتحتضن الدكاترة غير القادرين على البقاء في مناطق الحوثي غرقت في مشكلات فصل البنين عن البنات ودوخة انقطاع الكهرباء ومراضاة الانفصاليين.
لا يسعني الوقت أن نتحدث عن فرض محتوى تعليمي لا يستجيب ومتطلبات السوق ولا الشروط القيمية العلمية للتعليم الجامعي.
هذه مقدمة للوصول إلى تسييس التعليم الجامعي.
في جامعة صنعاء تُناقش رسائل دراسات عليا في فكر مؤسس الجماعة الحوثية. وجامعة تعز تناقش رسائل دراسات عليا في فكر احد دكاترتها وهو عضو في لجنة الإشراف. أما عدن فقد داخت وحرف سيل الجنوبعربية والانفصال عدداً لا بأس به من الأكاديميين الأجلاء.
انساق بعض الدكاترة لهذا الترويض. وأغلبهم ممن يحترم مكانته ومعرفته انكفاء على نفسه فلا أبحاث اجتماعية ولا دراسات.
في السنوات الأخيرة أصدر الصحفيون كتباً تخص الشأن اليمني سياسياً واجتماعياً أضعاف ما صدر من كتب عن دكاترة العلوم السياسية ودكاترة علم الاجتماع اليمنيين.
دكتور علم اجتماع في صنعاء اكتشف، إثر محاضرات عبد الملك الحوثي، عهد علي بن ابي طالب إلى مالك الاشتر وكتب بحثا كاملا في مديح الرسالة. وقسم علم الاجتماع في جامعة تعز انزوى في كنف مركز ابحاث سلفي التوجه هو المركز المدني وشرع في شراكة خانقة، في الاستجابة لبرنامج المركز المعنى بـ"الإصلاح الثقافي" في تدارس مواضيع البحث الاجتماعي في اليمن. عوض ان يكون القسم هو حاضنة الأنشطة ويرسم معالم البحوث ومواضيعها ومناهجها انجر القسم وراء المطامح السلفية في أسلمة العلوم الاجتماعية.
الحقيقة أن اللون الأيديولوجي لبعض الجامعات اليمنية لا تخطئه العين. جامعة صنعاء اصبحت جامعة سلالية حوثية، وجامعة تعز، التي تدار عن بعد وبالغياب، أصبحت سلفية مؤسلمة، جامعة عدن عندما تصحو من دوختها ستكون انفصالية.
لم ينته الأمر، ما إن تضع الحرب أوزارها إلا وسيعود لنا مئات من الذين استلوا شهادة الدكتوراة في مؤسسات مشبوهة اكاديميا وفي بلدان مشهورة بالفساد والاحتراب والمرونة وفي مواضيع متماثلة ومجالات محدودة خصوصا العلوم الدينية.
وهكذا يكون الحوثي قد توهم ومعه لفيف من الحمقى، انهم بحربهم على اليمنيين سيقضون على جامعة الايمان ليخلصوا من المطاوعة والمتشددين فاذا كل الجامعات اليمنية أصبحت جامعة ايمان، أو سيقضون على حزب الإصلاح فإذا بنا نفكر كيف ننتزع حزب الإصلاح من بلعوم السلفية.
كان الوسط الأكاديمي في السابق في عهد صالح يتوجس ويشتكي من التعيينات الأكاديمية المفروضة بالقوة وبالمخالفة والتلاعب باعتبار الأساتذة المسنودين هم في الأصل أفراخ النظام الأمني وحزبيين.
أما اليوم فالخشية هي أن الدكاترة الجدد خريجون دورات ثقافية وحلقات وربما دورات تربية روحية تابعة لأولئك القوم.
*من صفحة الكاتب على إكس