هاني مسهور

هاني مسهور

تابعنى على

إسرائيل في باب المندب .. نهاية الأمن القومي العربي؟

Thursday 12 June 2025 الساعة 09:03 am

لم تكن إسرائيل بحاجة هذه المرة لاجتياح بيروت أو شن غارات على مطار دمشق كي تُثبت سطوتها، لقد أبحرت ببوارجها، ببساطة وجرأة، حتى وصلت إلى باب المندب، المسافة بين ميناء إيلات والحديدة تتجاوز الألفي كيلومتر، لكنها لم تعد بعيدة كما كانت، فبعد 7 أكتوبر تغيّر كل شيء، إسرائيل التي كانت تُحاصر داخل حدود ضيقة في غزة، ولم تكن تملك شجاعة تحريك زورق صغير في مياه العقبة، باتت الآن تفرض وجودها العسكري في جنوب البحر الأحمر، وتضرب ميناء الحديدة، دون أن تعلن الحرب، ودون أن تلتفت إلى "الجامعة" أو إلى بيانات الشجب الموسمية.

لم تعُد تل أبيب تتصرف كدولة تدافع عن نفسها، بل كقوة تُعيد رسم خطوط الاشتباك في الإقليم، معركتها لم تعد محصورة مع حماس أو حزب الله، بل باتت مع المحور الإيراني بكامله، وفي هذا التمدد الاستراتيجي، لم تكن اليمن سوى الحلقة الأضعف التي قررت إسرائيل أن تدخل منها لتعيد رسم معادلة الردع، وتضع حداً لهامش المناورة الحوثية الذي طال أكثر من اللازم.

الحوثي الذي أطلق صواريخه في الهواء طربًا بـ"نصرة فلسطين"، وجد نفسه في مرمى البحرية الإسرائيلية، وهذه مفارقة تستحق التأمل، الجماعة التي أقسمت على تحرير القدس، تتلقى ضربات مباشرة على الساحل الغربي لليمن، دون أن يتحرك أحد، ودون أن يفتح محور المقاومة فمه، أو ينعي القصف كما ينعى "شهداء الجهاد".

إسرائيل لا تهاجم الحديدة كهدف عسكري فحسب، بل تسعى إلى خنق شريان تهريب السلاح الإيراني، وتوجيه رسالة مفادها: "من الآن فصاعدًا، كل جبهة تهدد أمننا، سندخلها بطريقتنا"، هذه عقيدة جديدة قوامها المبادرة، ونقل المعركة إلى العمق العربي، بلا اعتذار، وبلا حاجة لتنسيق مع واشنطن.

لقد تغيّرت قواعد اللعبة، فقبل سنوات، كانت الضربات الإسرائيلية تمر عبر قناة التنسيق مع البنتاغون، أو تُغطّى دبلوماسيًا من حلفاء في الغرب، أما اليوم، فإسرائيل تعتبر نفسها طرفًا مباشرًا في معركة الشرق الأوسط الجديدة، ولا تنتظر ضوءًا أخضر من أحد. بل هي التي توزّع الأضواء، وتُحدّد الاتجاهات.

وهنا يكمن جوهر الكارثة، أن إسرائيل لا تعبث فقط بخريطة الردع، بل تُبدد آخر بقايا المفهوم الكلاسيكي للأمن القومي العربي، ذلك المفهوم الذي تأسس على فكرة الدفاع المشترك، والتنسيق بين العواصم، والعمق الاستراتيجي الممتد من المحيط إلى الخليج. اليوم، لا أحد يملك عمقًا، ولا أحد يملك قرارًا، كل عاصمة منشغلة بجغرافيتها، وإسرائيل وحدها من تعيد ضبط الإيقاع في كامل الإقليم.

إنه التمزق بعينه، تمزق المفاهيم، والتحالفات، والجغرافيا، والردود، تمزق السيادة، حين تمر البوارج الإسرائيلية من أمام السواحل العربية ولا يعترضها أحد. تمزق الردع، حين تصبح تل أبيب أقرب إلى الحديدة من صنعاء نفسها. تمزق المشروع العربي الذي خسر قضاياه الواحدة تلو الأخرى، حتى بات البحر الأحمر، الذي كان آخر خطوط الدفاع، مفتوحًا لمن يملك الجرأة والسلاح والمبادرة.

في كل هذا الخراب، يصرّ البعض على سؤال سخيف "هل قصفت إسرائيل فعلًا؟" كأننا بحاجة لتأكيد رسمي كي ندرك حجم الاختراق، لا يهم إن كانت البوارج تحمل علم إسرائيل أو علم غيرها، ما يهم أن إسرائيل باتت حاضرة بقوة، بفعل الفراغ العربي الذي ملأته بصمت، وملأته بنجاح.

والأخطر أن هذا الحضور لا يُقابل برفض، بل بصمت يُشبه القبول، لا أحد يعترض، ولا أحد يحتج، بل ثمة من يجد في الضربات الإسرائيلية فرصة لقص أظافر الحوي، وهنا تكتمل الصورة، إسرائيل تمزق الأمن القومي العربي، والعرب ينظرون — بعضهم بحذر، وبعضهم برضا.

فمن إيلات إلى باب المندب، لم تبحر إسرائيل لتنتقم من صاروخ، بل لتنتقم من غياب المشروع العربي، ومن تفكك الدولة، ومن شعارات لا تُردع أحدًا.

والمؤلم أن البحر، الذي كان يومًا رمز السيادة، بات شاهدًا على عصر جديد:

عصر إسرائيل المتحرّكة، والعرب الصامتين.

كل هذا يحدث نتيجة تقديرات راهنت على إخوان اليمن في مناكفة للجنوبيين.

من صفحة الكاتب على منصة إكس