علي عبدالله صالح.. ليس حزباً ولا عائلة ولا سلطة.
هو مواطن، أولاً، وعسكري ثانياً. عسكري ابن الجيش وليس ابن المخابرات وأجهزتها وتقاليد عملها.
كنتُ يوماً معه في سيارته يطوف صنعاء، وحين وصلنا جسر "بيت بوس"، قال لي: "لو حكمنا على تقارير أجهزة الأمن إننا جلسنا عمرنا كله نتضارب نحن والشعب".
قال: "افتح تلفونك للناس.. وخلّ الأجهزة الأمنية تشتغل بطريقتها.. سلّم لها المرتبات واعتمد ما يوصله لك الناس"، كأنه يقول تحليلاً للتشريع: "الناس أصحاب مصلحة في حل المشكلات، أما الأجهزة الأمنية فمصلحتها في صنع المشكلات واستثمارها".
يرحمك الله أيها الزعيم.
وهذه كانت أهم نقاط قوته، ولاتزال حتى وقد انتقل إلى ربه شهيداً.
لم يصمد مع الزعيم إلا مواطنيته..
حكم ٣٣ سنة بالجيش والأمن والإعلام والمال.. وبقي ست سنوات وكل هذه العوامل ضده، ولكن معه مواطنيته، وأثبت أنها هي الأقوى، هي السّند.. هي الأساس.
من يحوّل "موت" علي عبدالله صالح يوماً للنواح والتباكي.. يقفز على كل هذا، ويريد تحويله "إلهاً" لايموت.
استعيد آخر غداء لنا معه، مع بدء الاشتباكات الأخيرة مع "جماعة الموت".
وسط الاشتباكات، يجلس على طاولته، يدعو عارف الزوكا، يتأكد أن خالد الديني يأكل تمام.. يمد لنا من صحنه... يتأكد: طارق موجود.. صلاح جالس.
أتذكر الآن هذه التفاصيل.. وأتذكر كلماته طيلة وقت المائدة، كأنه يودع كل واحد منّا.
يودعنا، ليس لأنه ينتظر رصاص الحوثة، بل لأن الحياة عنده وصلت للحظة النهاية، والكبار يدركون ذلك ويذهبون إليها.. الموت لايأتيهم.. هم يذهبون إليه، لكأنه موعد حددوه هم أول الميلاد.
الحوثي هنا ليس إلا وسيلة للعدم.. لم يختَر الحوثة ما سيفعلونه، هم أدنى من أن يحددوا لأنفسهم مساراً.. هم مجرد أداة يحركها تاريخ الوجود..
ما كان للزعيم أن يخلد.. غير أن كل ما كان فيه خير لهذه البلاد مهما بلغ السوء في حدوده، لم يقبل به القدر ليكون الوسيلة التي تخلد كقاتلة لـ"علي عبدالله صالح".
أما الحوثي، فقد اختصّه القدر.. اختصّ تخليده بوصفها الجماعة التي قتلت "اليمن".
ولن تتبرأ من هذا التاريخ عمرها كُله، منتصرةً أو منهزمةً..
دمُ الزعيم، سيظل بادياً بين عيون رجالها ونسائها.. بين أيديهم، وفي مأكلهم ومشربهم، وبين خطبهم وخطاباتهم.
لم يكن علي عبدالله صالح، شيئاً خارقاً، بل كان "ابن تراب هذه الأرض وبعض لونها وروحها".. كان مواطناً.
دعكُم من أخطائه.. أعيدوا تقييم هذا الرجل بتجرُّد، الناس أحقُ به من إخوانه وأبنائه وأبنائهم..
هو ابنكم أنتم أيها الناس.. وأبوكم أنتم.
ويمكنكم أن تؤطروا أخطاءه سواءً الشخصية أو في الحكم، وتتعظوا منها أيضاً، ولكن أولاً أعيدوا تقييم أدائه كواحد منكم وبكم..
كلُ من سيتعامل معه على أنه ورث عائلي، أو أنه تجربة أمنية استحواذية مخبأة اختراقية.. لن يحقق شيئاً لنفسه وسيسيئ كثيراً لهذا الرجل.
من يوم حكمه الأول إلى يوم حياته الأخير.. كان "علي عبدالله صالح" مواطناً يمنياً.. عادياً.. بسيطاً.. لم يستطع كل هيلمان الحكم أن يغيره..
لك الخلودُ ياعلي..