صارت صنعاء بعيدة جدا عن كل اليمن، وكل ما جمعته هذه المدينة في خمسين سنة وأكثر منذ استقر الحال بعثره الجاهل عبدالملك الحوثي في أربع سنوات.
العائليات التجارية
الأحزاب السياسية
الصحف والمنظمات
الشخصيات
الأسواق
حتى المطاعم والفنادق..
وخارج صنعاء، تهاوت دولتها ولم يبق إلا مواطنوها.
لم يصمد في المكلا إلا "الشامي" تاجرا.. أما العقيد الذي كان يتباهى برتبته فقد خلع بدلته واختفى للأبد.
فلم تحسن "صنعاء" الحفاظ على دولتها..
تخيلوا، ما كاد الناس يهدؤون وهم يعارضون أخطاء دولة الرئيس علي عبدالله صالح، فإذا بهم يرون الحوثي يتباهى بقتله ثأرا لدم "حسين بدر الدين" الذي لايرى فيه اليمني أي معنى للاحترام ولا له قيمة.
صحيح أن إصلاحيين أو موالين لمشائخ ثورة ٢٠١١ قالوا إن الحوثي لم يفعل حسنة في حياته إلا قتله للرئيس السابق، رحمه الله وتقبله شهيداً، لكن هذا رأي بعض دولة صنعاء التي أصلاً لم يكن يمد في نفوذها إلا الرئيس السابق نفسه، وهذه الحسنة الحوثية برأي هؤلاء عنت أيضا انتهاء أي وجود لهم ولدولتهم خارج مناطقهم.
وما لم يتدارك كبار صنعاء ومحيطها الأمر، ويدفنوا الحوثي اليوم قبل الغد، فإن صعدة ستدفن صنعاء وتعيدها لحالها قبل الجمهورية اليمنية.
اليوم يسير اليمني في شوارع مدينة مأرب فيرى أهله من كل المناطق يخدمون بعضهم، هذا يفتح دكانا وذاك مطعما وآخر فندقا.
هذا الوجود كله كان في صنعاء، لكنه اليوم يتسرب منها.
وما بقي فيها، لايزال يظن أن صنعاء ستتجاوز "الحوثي" عن قريب.
تبحث عن غرفة في فندق في سيئون أو المكلا، فترى مأربيا وشبوانيا وتهاميا وتعزيا.. فتحوا لهم محلات جديدة بين فندق ومطعم أو مغسلة.
قال لي عصام، بلكنة صنعانية كاملة، إنه لم يسبق له أن استقر خارج صنعاء إلا هذه المرة، فمنذ ثلاثة أشهر غادرها واستقر في المكلا ويعمل في أحد فنادقها.
لاعلاقة له بالسياسة.. لكن صنعاء صارت ملونة بـ"الأخضر" شعار تعبده من دون اليمن.
وكلما طال الأمر بدأت الجامعات والمدارس والمستشفيات تنتقل منها.
لايفهم الحوثي، مشاعر الناس، ولا يكترث لها.. لكن الناس سيرون هذه اليمن وهي تغادر صنعاء.
تسير في شوارع عدن.. فترى كأن صنعاء كلها صارت فيها.
رجال ونساء من قلب صنعاء، لاعلاقة لهم بالسياسة أيضاً، لكنهم تركوا صنعاء "الظالم سلطانها"، وصارت مصادر رزقهم في قلب عدن.
لم يقطعوا علاقتهم بصنعاء.. لكنها لم تعد مركز الحياة عندهم.
اليمن التي كانت متكومة في صنعاء توزع ما بقي منها..
والآلاف منهم في دول أخرى خارج اليمن.
ولعل الحسنة الوحيدة للخذلان المسمى بـ"الشرعية"، هو أنها تبقي اليمنيين متمسكين بالحياة في صنعاء على أمل أن تغسل الحوثي من وجهها قريبًا.. ولأن المناطق خارج صنعاء لاتزال تعاني من المشاكل الإدارية والأمنية.
أما إن استقر الحال في المناطق التي تطهرت من دنس عبدالملك وزبانيته وشعاراتهم العنصرية وقبحهم الديني وعدوانيتهم القومية والوطنية، فلا أعتقد أن أحدا فيها سيسمع اسم صنعاء من جديد.
وفي الشتات يمن كامل.. يمن الجمهورية والتعددية يكاد يتوزع في المنافي..
الحوثي وحده صامد في عدوانيته وشره وصلفه، حتى إنه يعين محافظا لحضرموت داخل صنعاء.
ولعل حكاية صديقي "المدير العام" في المكلا، هي أبلغ رد على هذه الصفاقة وصمود الجهل الحوثي..
تلقى مدير عام في المكلا اتصالا من صنعاء دعوة له لزيارة وزيره فيها، مع وعد أنه سيتم تحسين ظروفه لو قبل، فقال لهم: لكن أنتم أصلا بلامرتبات فكيف تدعوني لوظيفة بلامرتب؟
قال لهم إنه كان إذا أرسل موظفا إلى صنعاء يرسل له مستحقاته من المكلا.
قالوا له: ولكنك مؤتمري، ولن يقبل بك الحراك، فقال لهم: ما في حراكي قتل مؤتمري.. أما أنتم فقتلتم رئيس المؤتمر بكله. فكيف سأضمن عمري أنا عندكم.. في صنعاء لا عاد تضمن عمر ولا مرتب.
صنعاء، بحاجة لهبة يمنية تنقذها من الحوثي، قبل أن تفقدها اليمن بكلها.. ولكن هي، أيضًا، عليها أن تنتبه أنها تخسر اليمن شبرا شبرا وتشتري جماعة بلا عقل ولا منطق ولا دين ولا وطنية.