ابريل لونجلي
ثمانية أيام في عدن، المدينة المنسية في الحرب اليمنية المنسية
في الوقت الراهن ليس هناك الكثير من القتال في مدينة عدن على الساحل الجنوبي لليمن. لكن ترتيب رحلتي هذه استغرقني أكثر من سنة. كل شيء أفعله للوصول إلى هناك يؤكد لي إلى أي حد أدّت ثلاث سنوات من الحرب إلى تحطيم وتقسيم هذا البلد.
أبدأ بطلب الحصول على تأشيرة دخول في قنصلية تابعة للحكومة اليمنية برئاسة عبد ربه منصور هادي. لا يزال الطلب الذي تقدمت به في كانون الثاني/يناير 2017 يقبع في متاهات الإجراءات البيروقراطية. يقال لي بشكل غير رسمي بأن المدينة غير آمنة على الإطلاق بالنسبة لي.
أحاول الحصول على المساعدة من المستويات العليا في إدارة هادي والموجودين في معظمهم في المنفى في السعودية بعيداً عن تعقيدات الحياة في عدن. أحقق بعض التقدم لكن تلك التأشيرة تضيع في الفوضى البيروقراطية. وأخيراً، تثمر كل مكالماتي، واجتماعاتي ورسائلي، فيلصق دبلوماسي يمني تأشيرة الدخول على جواز سفري بينما كنت أزور الولايات المتحدة في أواخر خريف العام 2017.
تشكل العقبات البيروقراطية والصعوبات التقنية عقبات متكررة في وجه المهمة التي أقوم بها لصالح مجموعة الأزمات والمتمثلة في
هذه الأهمية التي تعطى للرمز الرسمي للدولة اليمنية يتناقض بشكل صارخ بالطبع مع الواقع على الأرض. الواقع هو أن تحالفاً تقوده المملكة العربية السعودية وتدعمه الولايات المتحدة هو الداعم الرئيسي لحكومة هادي المعترف بها دولياً، والتي أطاح بها المتمردون الحوثيون وحلفاء الرئيس السابق علي عبد الله صالح وأخرجوها من العاصمة صنعاء في العام 2015.
بعد ثلاث سنوات من الحرب، باتت البلاد في الواقع مقسمة إلى عدة مراكز قوى متنافسة. يحتفظ الحوثيون بالسيطرة على الشمال الغربي، بما في ذلك صنعاء. وتسيطر مكونات حكومة هادي المتحالفة مع السعودية على مأرب، شرق صنعاء. القوى المتحالفة مع الإمارات العربية المتحدة تركز على أراضي اليمن الجنوبي السابق، والذي كان دولة مستقلة قبل العام 1990. التحالف الذي تقوده السعودية والمكوّن من كتلة واحدة رسمياً وحلفاؤه اليمنيون منقسمون في الواقع، حيث يسود الخلاف بين القوات الجنوبية المتحالفة مع الإمارات العربية المتحدة من جهة وحكومة هادي من جهة أخرى، خصوصاً حول السيطرة والنفوذ في عدن.
تشكل العقبات البيروقراطية والصعوبات التقنية عقبات متكررة في وجه المهمة التي أقوم بها لصالح مجموعة الأزمات والمتمثلة في إيجاد السبل لإنهاء حرب اليمن وتخفيف حدة الأثر الكارثي على سكان البلاد البالغ عددهم 27 مليون نسمة، ومحاولة إقناع الآخرين بذلك. كان ترتيب رحلتي الأخيرة إلى صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون في العام 2017 لا يقل صعوبة عن ترتيب هذه الرحلة. علمتني تلك الرحلة أن تكتيكات فرض العزلة، والجوع والحصار تفشل في كسب الحرب، وتفاقم الانقسامات في البلاد وتدفع اليمنيين الشماليين، والعديد منهم من منتقدي الحوثيين، إلى الاتحاد ضد التحالف الذي تدعمه الولايات المتحدة.
التحقق والتحقق من جديد
يعد الحصول على تأشيرة دخول من حكومة هادي مجرد خطوة واحدة في رحلتي إلى عدن. قبل السفر، أقوم بإبلاغ المسؤولين الإماراتيين برحلتي وأحصل على موافقة قوات الأمن اليمنية المتحالفة مع الإمارات والتي تسيطر على المطار ومعظم أجزاء المدينة. التحدي التالي بالنسبة لي هو حجز مقعد على شركة طيران "اليمنية"، وهي شركة الطيران الوحيدة التي تسيّر رحلات جوية إلى البلاد. وبالنظر إلى أن هناك رحلة أو رحلتين يومياً إما من القاهرة أو من عمان، فإن ثمة تنافساً شديداً على المقاعد. يقال للعديد من أصدقائي اليمنيين الذي يحاولون الوصول إلى عدن في ذلك الوقت بأن جميع الرحلات محجوزة، ويعتقد البعض أنه قد يكون عليهم أن يدفعوا رشى ليتجاوزا الدور. في حالتي، يتمكن أحد معارفي في عدن من القيام بالعمل المجهد لمتابعة عملية الحصول على البطاقة في مكاتب "اليمنية". وعندما تطلب شركة الطيران مني أن أدفع ألف دولار لهذه الرحلة القصيرة، فإني أدفع، فلا خيار لدي. عندما أصعد إلى الطائرة التابعة لشركة "اليمنية" في القاهرة في أواخر شباط/فبراير، أفاجأ بأن ثلث المقاعد فارغة، أشك بأن الأسعار المرتفعة جداً تمنع اليمنيين من السفر إلا لحالات الطوارئ. العديد من الركاب المسافرين معي هم من العائدين إلى بلادهم بعد العلاج الطبي في الخارج. أرى شاباً كنت قد التقيته من قبل، كان قد اصطحب قريباً له إلى الهند لمعالجته من مشكلة صحية لم يكن من الممكن معالجتها في اليمن. لكن كان الأوان قد فات، فقد توفي. الأسرة عائدة إلى البلاد لقضاء فترة العزاء مع أقارب وأصدقاء آخرين.
تقلع طائرتنا إلى عدن بعد تأخر دام خمس ساعات، وهذا أمر معتاد بالنسبة للرحلات الجوية اليمنية من القاهرة، التي من المقرر أن تغادر في الصباح الباكر من كل يوم. أعصابي تضطرب. الطائرة في وضع مزرٍ. جميع المقاعد على مستويات مختلفة، ومقعدي منفصل عن المكان الذي يفترض أن يكون مثبتاً به. ولا يكترث أي من أفراد طاقم الطائرة لإعطاء تعليمات السلامة المعتادة.
البنادق، البنادق في كل مكان
تهبط الطائرة بأمان وأخرج لأرى عدن وقد تغيرت. لم أزرها منذ كانون الثاني/يناير 2015، قبل التدخل الذي قادته السعودية ببضعة أشهر. حينذاك، كان الجنوبيون يستعدون لصد الهجوم الوشيك للحوثيين، لكن حتى ذلك الحين لم تكن أية معارك قد اندلعت. أما الآن فهناك مبانٍ تعرضت للقصف في المطار وحوله وهناك شعور بالعسكرة في كل مكان. ثمة سياج ذو طابع عسكري مكوّن من أكياس كبيرة مملوءة بالرمل يتم بناؤه حول محيط المطار.
مبنى المطار لا يزال سليم ، ومكتب الجوازات مفتوح، ولو بعدد قليل من الموظفين بالنظر إلى العدد المحدود من الرحلات. ليس هناك أحد في الخارج في استقبالي، لأن البوابات مغلقة أمام مرور السيارات لأسباب أمنية. كان أحد الأصدقاء قد رتب لدخول البوابة، لكنه مُنع في اللحظة الأخيرة. وهكذا سرنا على طول مرآب السيارات الفارغ في الخارج. أحمل أنا وزملائي المسافرين حقائبنا إلى نقطة التفتيش، حيث نعبر إلى طريق ضيق ومزدحم بمسارين يشكل الآن الطريق الذي يوصل إلى المطار. وطبقاً لترتيب استهلك جهداً كبيراً، كان صديق أحد أصدقائي ينتظرنا. يقلني بالسيارة إلى المكان الذي سأقيم فيه.
من المقرر أن أقضي الجزء الأول من أيامي الثمانية في عدن في مديرية البريقة، وهي شبه جزيرة تقع على بعد 15 كم غرب المدينة، التي تشكل هي نفسها جزيرة تقريباً في خليج عدن. في الطريق إلى البريقة نمر عبر شريط صحراوي أجرد أقامت فيه قوات الأمن الإماراتية قاعدة لها. نتقاسم الطريق مع ناقلات جند مصفحة إما ذاهبة إلى ميناء البريقة أو ربما إلى جبهة الحرب في المخا، وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر. هذه هي المرة الوحيدة التي أرى فيها قوات إماراتية. تتمتع الإمارات بسلطة كبيرة في عدن، لكن يبدو أن جنودها يظلون غالباً متمترسين في مجمعهم.
لا زال الطريق من المطار إلى البريقة، كالعديد من الطرق في عدن، مخرباً بسبب المعارك التي دارت لطرد الحوثيين قبل عامين ونصف العام. وبشكل لا ينسجم مع المشهد الكلي، هناك أيضاً لوحات جديدة لمّاعة على طول الطريق. إحداها صورة لعيدروس قاسم الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات، ونائبه، رجل الدين السلفي هاني بن بريك وصور أصغر لأعضاء المجلس الآخرين. لوحة أخرى تظهر قائد الكتلة السياسية المعارضة، الرئيس هادي. ثمة صور أخرى لجنوبيين قاتلوا الحوثيين، فقط ليقتلوا لاحقاً على يد القاعدة أو الفرع اليمني لتنظيم الدولة الإسلامية.
بالانتقال من المطار نحو مصفاة النفط الوحيدة في الجنوب، وهي ايضاً في البريقة ، أمرّ عبر ست نقاط تفتيش تشغلها قوات الحزام الأمني التي شكلت بعد إخراج الحوثيين من عدن لحماية محيط المدينة من أي هجوم جديد. تتكون هذه القوات من جنوبيين متحالفين مع الزبيدي والمجلس الانتقالي الجنوبي. حكومة هادي تسميهم ميليشيات غير شرعية تدفع رواتبها الإمارات العربية المتحدة.
كان الإماراتيون هم الذين قادوا الحملة العسكرية التي أخرجت الحوثيين من عدن. وهم يدعمون ويمولون قوات الحزام الأمني، جزئياً لأنهم يعرفون أن كثيرين في المدينة يعتبرون هادي، المتحالف بشكل وثيق مع السعوديين، فاسداً وغير فعال. حكومة هادي تضم الحزب الإسلامي، الإصلاح، الذي يضم النسخة اليمنية من الإخوان المسلمين. الإمارات وحلفاؤها اليمنيون الجنوبيون ينظرون إلى حزب الإصلاح بتشكك كبير ويربطون الحزب بالتطرف السياسي والعنف. العديد من الجنوبيين يكرهون هادي وحزب الإصلاح، وتتمتع المجموعات المحلية المتحالفة مع الإمارات بالتفوق العسكري على الأرض.
كما أن هناك مكوناً إقليمياً في النزاعات الداخلية الجنوبية. بصرف النظر عن مدى صحة ذلك، فإن العديد من الأشخاص الذين تحدثت إليهم في عدن يعتقدون أن الإمارات تتحالف مع أشخاص من محافظتي الضالع ولحج ضد خصومهم التاريخيين من أبين، وهي محافظة الرئيس هادي. ثمة تصور بأن قوات الحزام الأمني في عدن تعتمد أكثر مما ينبغي على الأفراد الذين تجندهم من هذه المناطق وأن المجلس الانتقالي الجنوبي، ذي العضوية المتنوعة مناطقياً لا يمثل عدن بالشكل الكافي. آخرون ينكرون بقوة أهمية النزعة المناطقية. في حين أن الانقسامات الحالية ليست نسخة طبق الأصل عن تلك التي سادت في الماضي – حيث كانت مجموعات من محافظتي الضالع ولحج الحاليتين قاتلت في حرب أهلية وحشية دامت عشرة أيام ضد أبين وشبوة في العام 1986 – يبدو فعلاً أن للتاريخ صدى هنا.
يبدو أن مسؤولي الحكومة اليمنية، وكثيرين في المجتمع بشكل عام، يعانون من نقص المعلومات حول ما تستطيع الإمارات العربية المتحدة فعله وما لا تستطيع فعله، أو حول ماهية الأهداف بعيدة المدى لهذا البلد الخليجي
مفتوحة في كانون الثاني/يناير 2018 واستمرت يومين أو ثلاثة أيام قبل أن تتدخل الإمارات والسعودية لفرض وقف لإطلاق النار ظل هشاً ومتوتراً. يبدو أن مسؤولي الحكومة اليمنية، وكثيرين في المجتمع بشكل عام، يعانون من نقص المعلومات حول ما تستطيع الإمارات العربية المتحدة فعله وما لا تستطيع فعله، أو حول ماهية الأهداف بعيدة المدى لهذا البلد الخليجي. إذا كانت الإمارات ترغب بتحقيق نفوذ أكبر، فإن عليها أن تعلن بشكل أفضل عن أهدافها العسكرية والسياسية وعن ماهية قدراتها.
صمدت هدنة كانون الثاني/يناير، لكن لم تتحقق مصالحة سياسية. بدلاً من ذلك حدثت بلقنة وشلل سياسي. في أجزاء من المدينة، على سبيل المثال قرب وزارة الداخلية، يسيطر أنصار هادي على المنطقة. في أمكنة أخرى، القوات المتحالفة مع المجلس الانتقالي الجنوبي هي المسيطرة. ثم هناك جيوب في المدينة تسيطر عليها قوات "مقاومة" محلية على مستوى الأحياء تقريباً لعبت دوراً في إخراج الحوثيين ولا تتحالف كلياً مع أي من الفصيلين.
إلا أن ما يفاجئني كثيراً هي البنادق. في اليمن الشمالي، خصوصاً في المناطق الريفية، البنادق موجودة في كل مكان، لكن لم يكن ذاك هو الحال في عدن. لا تحت الحكم الاستعماري البريطاني، ولا في ظل حكم الشيوعيين الذين حكموا الجنوب حين كان دولة مستقلة عام 1999، ولا في اليمن الموحد في ظل حكم نظام الرئيس صالح. أما اليوم فالبنادق في كل مكان، تحملها قوات الأمن في سيارات البيك آب حيث تنصب الرشاشات الثقيلة على ظهرها – بعضها يرتدي اللباس الموحد الرسمي، وآخرون يرتدون خليطاً محيراً من الثياب القبلية والعسكرية – وشباب على الدراجات النارية، بعضهم قد يكون جزءاً من قوات الأمن المنقسمة، وبعضهم ليسوا كذلك. بالنسبة لعدن، ليس هذا هو الوضع "الطبيعي" الذي كنت أعرفه.
في اليمن الشمالي، خصوصاً في المناطق الريفية، البنادق موجودة في كل مكان، لكن لم يكن ذاك هو الحال في عدن.
ثمة خطر آخر يغذي التوترات. منذ العام 2016، اغتال مهاجمون غير معروفين أكثر من عشرين رجل دين وداعية، معظمهم مرتبطين بحزب الإصلاح الإسلامي السني. لقد حُرق مقر الحزب ويشعر أعضاؤه بأنهم مستهدفين من قبل الأجهزة الأمنية المتحالفة مع الإمارات، والتي تشاطر الإمارات عداءها للحزب. القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية موجودان أيضاً وقد هاجما كلاهما أجهزة الأمن في المدينة ومسؤولي الحكومة. كل هذا العنف يستهدف أشخاصاً بعينهم طبعاً، لكن لا أريد أن أكون في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. وهذا ما يجعل عدن مختلفة تماماً عن صنعاء، التي يدير فيها الحوثيون دولة بوليسية آمنة نسبياً.
وبسبب انعدام الأمن، لا أتنقل كثيراً. معظم معارفي وأصدقائي يأتون لزيارتي في مكان إقامتي في البريقة، مع أسرة رجل أعمال لديه فيلا جميلة تطل على خليج جميل لصيد السمك. وعندما أخرج، أرتدي العباءة والنقاب دائماً – أي ثوباً أسود طويلاً وخماراً يغطي الوجه بأكمله. بهذه الطريقة لا ألفت الانتباه سواء على نقاط التفتيش أو في الأماكن العامة.
مدينة تحبس أنفاسها
بالتنقل في أنحاء المدينة، أصدم بحجم الدمار الذي خلفته الحرب في عدن. الطريق الرئيسي إلى المدينة من الشمال، حيث تقدم الحوثيون وتراجعوا، يبدو كشرق حلب. في عدن، دُمر كل فندق كبير تقريباً. في زياراتي السابقة، كنت أقيم في فندق ميركيور، على الشاطئ مباشرة. ميركيور ممزق تماماً الآن، ردهته باتت مكشوفة بالكامل على إثر غارة جوية استهدفت الحوثيين، الذين كانوا يحتلون المبنى حينذاك. فندق عدن القريب دُمر نتيجة الضربات الجوية للتحالف الذي تقوده السعودية. تنظيم الدولة الإسلامية فجر فندقاً ثالثاً بناه صالح. العديد من أجزاء المدينة مدمر. وقد حدث الكثير من عمليات النهب.
وسط هذا الدمار، لا يزال هناك الكثير من الحياة. يخرج صيادو السمك إلى خليج البريقة. ووقت الغداء، تكتظ أسواق الفواكه والخضار. لقد انتقل عدد من مؤسسات الدولة إلى عدن ما بعث الحياة في مدينة كانت نائمة ومهملة في عهد صالح. هنا، على عكس الحال في صنعاء، يتلقى الموظفون، والمدرسون، ومنظفو الشوارع والعاملون الطبيون رواتبهم في معظم الأحيان. الأشخاص الذين تلاحظهم أكثر من غيرهم هم أفراد قوات الحزام الأمني في الأسواق يشترون رزم القات، وهو نبات مخدر بشكل خفيف يمضغه عدد كبير من اليمنيين. الإمارات تدفع لهم رواتب جيدة وفي أوقاتها. سعر الريال اليمني الذي تستخدمه الحكومة في انخفاض مستمر، وبالتالي فإن تضاؤل القوة الشرائية يعد شكوى مستمرة. ولا يستطيع ضجيج النهار أن يخفي المشاكل الأعمق في عدن.
ألتقي بأشخاص من كل الفئات: مدنيين وعناصر أمن مدعومين إما من الإمارات العربية المتحدة أو من الرئيس هادي؛ مسؤولين حكوميين وسياسيين آخرين؛ سلفيين وعلمانيين، رجال ونساء؛ أطباء، صحفيين ونشطاء منظمات غير حكومية. كل من أتحدث إليه يؤكد على أن المدينة مشلولة، خصوصاً نتيجة المأزق السياسي بين هادي والقوات المدعومة من الإمارات، في صراع وطني يعطله تدخل إقليمي يضاف إلى نزاع محلي.
وزير داخلية هادي كان العضو الوحيد في الحكومة الموجود في عدن عندما كنت هناك. يعمل في موقع محصن خلف جدران اسمنتية في منطقة يحرسها مقاتلون موالون لهادي. يرفض مغادرة عدن، حتى بعد أن كشفت المعركة التي دارت في كانون الثاني/يناير عن عمق النزاع بين القوات المتحالفة مع هادي والمجموعات المدعومة من الإمارات والتي تأكدت فيها السيطرة العسكرية للأخيرة. رغم ذلك فإنه واثق من نفسه ويتطلع الى رواية جانب الحكومة من القصة.
انعدام الحكم واضح في كل مكان.
الحكومة المحلية بالكاد تعمل. آخر محافظ عينه هادي لم يتسلم فعلياً مهام منصبه ولم يبقَ في المدينة أكثر من بضعة أشهر. نائب المحافظ يقوم بمهامه إلى أقصى درجة يستطيعها؛ لكن بالنظر إلى أن المحافظ شخص محوري لإنجاز الأمور محلياً، فإن الحكومة المحلية في عدن مجمدة. المدينة مأخوذة رهينة في لعبة شد حبال متداخلة: هناك أنصار حكومة هادي من جهة، وخصومهم في المجلس الجنوبي المؤقت من جهة أخرى. وثمة نزاع بين مصالح وطنية ومحلية متعارضة يسعى فيه الجميع للسيطرة على الموارد لكن ليس هناك قوة تحكم بشكل فعال.
انعدام الحكم واضح في كل مكان. صديق يعيش بالقرب من المطار اشتكى لي من أنه لم يكن بالإمكان فعل شيء عندما بدأ أحدهم مشروعاً إنشائياً قطع أنبوب الصرف الصحي المحلي الرئيسي، وباتت مياه الصرف الصحي الآن تتدفق إلى الشارع. يقول: "في مديريتي، البقاء للأقوى". رجل أعمال يشكو من كيف أن رجال مسلحين يحتلون أبنية لا علاقة لهم بها ويطردون مالكيها الحقيقيين. ويخبرني أن: "المقاتلين يقولون إنهم ضحوا بالدماء من أجل هذه الأبنية وهم يقاتلون الحوثيين، وقد أخذوها كغنائم حرب". يطلب رجل الأعمال المساعدة من المحاكم، ويقال له إن بوسعه التقدم بدعوى وكسبها، لكن لا أحد سينفذ حكم المحكمة. لا يستطيع أحد فعل شيء حيال هذا الوضع.
عائلات عدن التقليدية، والعديد منها في قطاع الأعمال، طالما شعرت بالإهمال أو سوء المعاملة من قبل الشماليين خلال سنوات حكم صالح ومن قبل مواطنيهم الجنوبيين الريفيين، الذين هيمنوا سياسياً خلال فترة حكم الاشتراكيين قبل العام 1990. يقولون إن التاريخ يكرر نفسه، حيث يتصارع المقاتلون الريفيون ضد بعضهم بعضاً على السلطة في عدن الآن وقد طرد الحوثيون منها. الجيل الشاب في عدن، وكثير منهم حملوا السلاح ضد الحوثيين، لا زالوا مسلحين. بعضهم متحالف مع المجلس الانتقالي الجنوبي، وبعضهم مع هادي، وهناك البعض لا مع هؤلاء ولا مع أولئك.
هناك الكثير من الغضب والإحباط من القوى الخارجية أيضاً. أرتب للقاء مع مجموعة كبيرة من النساء المتعلمات وصاحبات المهن. هناك محاميات وسيدات أعمال يشعرن بأنه لا حول لهن ولا قوة، وأنهن بيادق في لعبة يلعبها السعوديون، والإماراتيون، والأميركيون والبريطانيون. يقلن إن حياتهن تدمرت بسبب الحرب ضد الحوثيين لكن بشكل خاص بسبب استمرار الاقتتال الجانبي في الجنوب. إنهن يحبسن أنفاسهن ويتساءلن ما إذا كانت المرحلة القادمة ستكون أسوأ.
هؤلاء النساء صديقاتي. ألتقيهن دائماً عند أزور عدن. يخبرنني بما يجري في المجتمع، وهو ما لا أعرفه من المقابلات الرسمية، وهذا يساعدني على وضع السياسات المحلية في سياقها. أستمع لتفاصيل حول الفساد ما كنت لأعرفها بطريقة أخرى.
قبل الحرب، كنا نجتمع في نادي رياضي للنساء، لكننا لا نستطيع فعل ذلك هذه المرة لأن النادي تضرر بسبب الحرب وباتت النساء يعتبرن المنطقة التي يقع فيها غير آمنة بالنسبة لهن. وهكذا نجتمع هذه المرة في منزل إحدى النساء. تقول صديقاتي إن عليهن أن يجتمعن لأنه دون بعض الشعور بوجود حياة طبيعية سيصبن بالجنون. إحدى النساء تقول إنها كانت قد عانت من مشكلة صحية أسيء تشخصيها في عدن. أخضعت لعملية جراحية غير ضرورية، وتفاقم وضعها الصحي أكثر فأكثر. حصلت على الرعاية الطبية المناسبة فقط بعد أن تمكنت أخيراً من السفر إلى الهند، وهي رحلة صعبة بالنظر إلى تكاليفها والعدد المحدود من الرحلات.
تقول صديقاتي إن عليهن أن يجتمعن لأنه دون بعض الشعور بوجود حياة طبيعية سيصبن بالجنون.
بفضل ما ينفقه التحالف، فإن الوضع الاقتصادي في عدن ليس سيئاً بالدرجة التي توقعتها، وهو أفضل من الوضع في صنعاء. لكن القصص التي ترويها صديقاتي تبرز كلفة فشل الحكومة في إعادة الحياة الطبيعية. نعم، يشعر الناس بالارتياح حيال إخراج الحوثيين من المدينة. نعم، هناك ماء في المنازل أحياناً، على عكس العديد من البلدات الأخرى في اليمن. وأنا هناك، كانت الكهرباء تعمل، رغم أن الجميع قلقون من أن ارتفاع درجة الحرارة في الصيف سيرهق النظام الكهربائي. لكن بشكل عام، لا شيء يعمل بشكل سليم. ثمة درجة عالية من الإحباط، والسكان، المتلهفون للحكم السليم والأمن الشخصي والاقتصادي، لا يرون أملاً في التحالف الذي تقوده السعودية، ولا في الداعمين الخارجيين للتحالف، ولا في هادي أو خصومه المحليين.
تشعر عدن بأنها مهملة. بعد عامين ونصف العام من مغادرة آخر الحوثيين، لم تحدث عمليات إعادة إعمار تذكر. وليس هناك أية بعثات دبلوماسية عاملة. بدأ العدنيون بالشعور بالاستياء من عدم الاهتمام، من الإمارات العربية المتحدة بوجه خاص، التي يقول السكان إنها تركز بشكل مفرط على الأمن الضيق، خصوصاً على القضايا المتعلقة بمحاربة الإرهاب. في مرحلة ما كان ينظر إلى الإماراتيين على أنهم محررين، أما الآن فبات تعبير "الاحتلال" متداولاً. سمعت الكثير من هذا الحديث حتى من أشخاص لا يساندون حكومة هادي.
الوقائع على الأرض
بعد إقامتي في البريقة، انتقل إلى كريتر، الواقعة في صحن بركان قديم يحتضن مركز مدينة عدن القديمة. خلال إقامتي هناك، ألتقي شلال علي شايع، قائد شرطة عدن. إنه في مقدمة جهود محاربة الإرهاب. أرفض الذهاب إلى مقره، حيث كان هدفاً لمحاولات اغتيال. وكان الذهاب إلى منزله على الشاطئ في مديرية التواهي، الواقعة في شبه جزيرة خاصة بها، هي المرة الوحيدة التي أشعر فيها بتوتر حقيقي.
يقابلني شلال جزئياً لأني التقيته قبل عقد من الزمن عندما كان متمرداً جنوبياً لاجئاً يختبئ من حكومة صالح. يقول لي – كما يفعل آخرون في عدن – بأنه يقدّر كثيراً أن مجموعة الأزمات تتعاطف مع محنة الجنوبيين وتعكس ذلك في تقاريرها، حتى لو لم نكن إلى جانبهم سياسياً فيما يتعلق بقضية الانفصال. في العام 2007 تحدث عن حتمية انفصال الجنوب عن الشمال، والآن ها هو مسؤول عن قوة جنوبية مستقلة بحكم الأمر الواقع مدعومة من الإمارات العربية المتحدة. لا يبدو عليه أنه يشعر بالانتصار. الجنوبيون الذين على شاكلة شلال لا زالوا يريدون بلداً خاصاً بهم، لكنهم لم يعلنوا دولة جنوبية مستقلة في هذه المرحلة. لا زالوا يشيدون بهادي علناً ويرسلون المقاتلين لمحاربة الحوثيين.
إن تطور المسيرة المهنية لقائد الشرطة بحد ذاته يؤكد على مدى صعوبة توحد اليمن. وكذلك الأمر بالنسبة لبنية جهاز الأمن الجديد في اليمن. وحدات الجيش المتحالفة مع معسكر هادي ومختلف القوات الأمنية التي تقوم الإمارات ببنائها في عدن جنوبية 100%. باستثناء شمال محافظة حضرموت ، ليس هناك شماليين يحملون السلاح في الجنوب. قد يكون الجنوب منقسماً داخلياً، إلا أن معظم الفصائل تقول إنها تريد بناء مؤسسات دولة جنوبية. هذه هي الرواية المشتركة التي توحدهم، رغم صراعهم للسيطرة على كيفية الوصول إلى ذلك الهدف.
تنامي المشاعر الانفصالية
إذا كان من شيء آخذه معي وأنا أخرج من عدن، فإنه وعي جديد بخط التصدع المحوري هذا. وهو خط عميق. كان جنوب اليمن دولة اشتراكية مستقلة بين عامي 1967 و1990. وطوال الفترة التي توحد فيها مع الشمال، كان الجنوبيون يشعرون بالغضب مما يرون أنه هيمنة شمالية. حارب الانفصاليون الجنوبيون وخسروا في حرب قصيرة من أجل الاستقلال في العام 1994. حتى قبل الانتفاضة التي عمت البلاد في العام 2011 والتي أطاحت بصالح، سلف هادي، انتفض الجنوب ضد الحكومة المركزية، داعياً إلى الحصول على الحقوق الجنوبية، ولاحقاً إلى الاستقلال.
وقد تنامت المشاعر الانفصالية منذ ذلك الحين، من خلال الخطة الانتقالية لحقبة ما بعد صالح، والتي شابتها عيوب كثيرة، واستيلاء الحوثيين على صنعاء، والحرب الأهلية والتدخل الذي قادته السعودية لإعادة تنصيب هادي. الآن يبدو أن كل ما يحافظ على وحدة البلد هو العملة المحلية واقتصاد الحرب، لكن منذ العام 2016 وقيمة الريال في انخفاض مستمر تقريباً. وفي الوقت نفسه، فإن الصراعات الداخلية على السلطة داخل الجنوب واضحة للجميع وباتت فعلياً حرباً داخل حرب.
كل يوم في عدن يعزز شعوري بالنفوذ المحدود لحكومة هادي المعترف بها دولياً، وقناعتي بأن تركيز الأمم المتحدة سابقاً على محادثات السلام الثنائية كان غير واقعي وغير عقلاني. ليس من المنطقي أن يكون الحوثيون وحكومة هادي اللاعبان الوحيدان اللذان يمكن أن يتفاوضا على وقف لإطلاق النار أو الشروع بتسوية المشاكل الأكثر تعقيداً والتي أدت إلى الحرب الأهلية في المقام الأول. لكليهما دور، لكن هناك أيضاً دور لجملة واسعة من اللاعبين الجدد على الأرض، وكذلك لأطراف خارجية.
في طريق عودتي إلى المطار، أشعر مرة أخرى أنه من الجوهري التعامل مع اليمن كما هو على الأرض وفهم هذه التطلعات المحلية وهيكليات السلطة الجديدة. لقد أعطتني أكثر من 20 مقابلة معمقة أجريتها هناك أفكاراً جديدة حول كيفية تحسين الوضع فوراً. وهذه الأفكار تشمل الحاجة لإعادة تفعيل السلطات المحلية وأن تتفق الفصائل السياسية على تعيين محافظ يستطيع توحيد قوات أمن المدينة – والحكم.
وأنا أصعد إلى الطائرة عائدة إلى القاهرة، أجد أن ثلثي مقاعد الطائرة فقط مشغولة. أجلس بالقرب من أسرة، رجل أكبر سناً، وزوجته وشقيقتها الكبرى. لقد قاموا برحلة خطيرة مجهدة من صنعاء، رحلة من الشمال إلى الجنوب لم يعد يحاول القيام بها سوى المضطر أو الذي تحتم التزاماته عليه ذلك. يقولون إن الرحلة استغرقت 17 ساعة – بينما ينبغي أن تستغرق ست أو سبع ساعات – جزئياً لأنهم كشماليين يواجهون الكثير من المشاكل على نقاط التفتيش. لكن لا خيار لديهم؛ حيث إن عدن وسيئون في حضرموت هما المدينتان الوحيدتان اللتان فيهما مطار يستطيع المدنيون من خلاله مغادرة البلاد.
من الجو أستطيع أن أتبين أماكن كنت في وقت سابق قد رأيت فيها علم دولة ما قبل العام 1990، والذي بات الآن رمزاً لاستقلال الجنوب، مرسوماً بالألوان على بقايا أبنية تعرضت للقصف. عندما أفكر بالأمر أجد أنه يبدو كما لو أن الجنوبيين يطبعون خاتمهم الذي يعبر عن حقهم في هذه المباني المدمرة: "قد تكون أنقاضاً، لكنها أنقاضنا".
* مديرة مشروع شبه الجزيرة العربية في مجموعة الأزمات، إبريل لونغلي آلي.
والمقال نقلا عن موقع المجموعة
https://www.crisisgroup.org