هناك من لا يريد استيعاب أنَّ "الصحافة الورقيّة" تحتضر، وتعيش أيامها الأخيرة في ذُل ومسكنة لا تحسدان عليها.. فالواقع أنّها لم تعد مجدية. لا إعلامياً ولا استثمارياً.
والأكيد أنّ غير المتقبلين لزوالها غالبيتهم من كبار الصحافيين الورقيين، أو "الورّاقين" إن صحّت التسمية.. فليس بمقدورهم التصوّر أنَّ المهنة التي يترزقون منها، وأفنوا فيها جزءًا كبيرًا من أعمارهم، تُنازع الرمق الأخير.
صحيفة "الحياة" السعودية أعلنت الشهر الفائت توقف نسختها الورقية في كل من: "بريطانيا"، "مصر" و"لبنان". وانضمت لمئات الصحف التي سبقتها في التحول إلى النشر الإلكتروني بسبب عزوف القرّاء عن اقتنائها ورجال المال والأعمال عن الإعلان فيها.
وإذا كان إعادة نشر مُحتوى الصحف الورقية إلكترونيًا بدأته على مستوى العالم صحيفة (هيلزنبورج داجبلاد) السويديَّة عام 1990، مع إطلاق شبكة الانترنت. فإنَّ خبراء الإعلام يؤكدون أنّ أول تجربة لإطلاق منصة إعلام إلكترونية دشّنتها كلية "الصحافة والاتصال الجماهيري" في "جامعة فلوريدا" باسم "بالو ألتو أونلاين" عام 1993، ثم تبعها موقعٌ آخَر ولكنه منتظم الصدور في (19 يناير 1994)، هو "ألتو بالو ويكلي".
في العالم العربي كانت صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية التي يملكها عاهل السعودية الحالي، أول صحيفة ورقية أعادت نشر مُحتواها في شكل صور على شبكة الإنترنت في 9 سبتمبر 1995، تلتها صحيفة "النهار" البيروتية، ثم "الحياة". كما أنَّ الصحافي السعودي "عثمان العمير" رئيس تحرير "الشرق الأوسط" الأسبق، هو أول من جازف بإنشاء موقع الكتروني هو "إيلاف".
والدكتور "عبدالعزيز السقاف" صاحب "يمن تايمز" أول من أدخل صحيفته الإنترنت في اليمن، تلتها يومية "الأيام" للباشراحيل، وهما صحيفتان أهليتان.
ثُم يومية "الجمهورية" الحكومية الصادرة من "تعز". كما يُعد موقع "التغيير" أول موقع إخباري يمني، أسسه زميلنا المرحوم "عرفات مدابش" يليه موقع "نيوز يمن" لزميلنا العزيز "نبيل الصوفي" والذي حوّلَه في فترة وجيزة إلى وكالة أنباء.. وأعاد له مجده مُجدداً منذ أشهر.
وإذا كان من المألوف حالياً إعلان الصحف عن توقف نسخها المطبوعة، والاكتفاء بالنشر الإلكتروني، لتوفيره الجهد والوقت والمال، إذ لا تحتاج الصحف الإلكترونية لمطابع ووسائل نقل، وعمال وإداريين، وتكاليف تشغيل تتجشم الصحف الكبرى لتوفيرها في اليمن وغيرها ملايين الدولارات سنويًا.. فالإلكترونية تكتفي بخط إنترنت وموقع تفاعلي وشاشات كومبيوتر، ومع هذا تقدم خدمة أفضل وأسرع من الصحف الورقية.. تواكب الحدث وقت وقوعه، وتجمع بين الكلمة والصوت والصورة.
لكن، في اليمن.. وعلى خلاف ذلك قلب الزميل "فتحي بن لزرق" ناشر صحيفة "عدن الغد" هذا المفهوم رأسًا على عقب، فبدأ بتأسيس أول موقع إخباري في "عدن".. وبعد ذيوع صيته وإقبال القرّاء عليه.. اشترى "مطبعة" وعمل منه "صحيفة" ورقية كَسر بها احتكار صنعاء.. وتوزع في معظم محافظات الجنوب.. والسبب أنّ الصحف الإلكترونية في اليمن (كما كثيرٌ من دول العالم): لا تُباع.. وفي حال تشفيرها بمقابل لا يُقبل عليها القرّاء.. كما أنّ المعلنين كانوا إلى وقت قريب يحبذون الإعلان في الصحف الورقية.
ولعلّ الاعتداء الآثم الذي تعرض له ناشر "عدن الغد" قبل أيام، واحتجازه من "قرويين" جندتهم جهة أمنية لثماني ساعات، بقدر ما أزعجنا (نحن مُحبيه وزملاءه) وألقى في قلوبنا الرعب على حياته، إلاّ أنَّه طمأن الكثير من الصحفيين بأنّ مهنتهم لم تمت بعد.. ولها مُتابعون، ولا يزال في هذه البقعة التعيسة من يقرأ للصحفيين.. وينزعج مما ينشرونه، وَيَا للعجب.. يعتدي على الناشر بالضرب والحبس. ولا يُدرك أنّ هذا الأسلوب القمعي لا ينفع في اليمن، وفِي مدينة مثل "عدن"، ظهرت فيها أول صحيفة على مستوى الجزيرة العربية.. وكان يوزعها الاستعمار البريطاني في اليمن والخليج.. وأظن زميلنا "فتحي" مقروءاً لجمعه بين الصحافة الورقية والإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي. والأخيرة مكنت كل من هو قادر على التعبير من إنشاء صفحة أو قناة خاصة به، يكتب أو يتحدث فيها بكامل حريته، وقد يُتابعه من خلالها مئات الآلاف من القرّاء والمشاهدين. ومن العبث استخدام العنف في الاعتراض عليهم، فهم بالملايين.
كان الصحافيون يتعبون.. أو يأخذون وقتًا لمعرفة ردود الفعل أو رجع الصدى لما ينشرونه.. ويقيسون ذلك بزيادة مبيعات صُحفهم، أو تلقي الاتصالات والرسائل. وأحياناً بتفاعل السلطات مع نقدهم.
وفي السنين الغابرة، كانوا يُقابَلون بالاحتفاء والإعجاب، ويتصدرون المجالس، وينظر الناس إليهم بنوع من التكريم والتمييز.. ويحرص المسؤولون على كسب رضاهم.. أمّا في السنين السبع الماضية انحسر الإقبال على متابعة الصحف المطبوعة. وجاءت الحرب.. وتقاسم الميليشيات للحواجز والنقاط لتنهي ما تبقى من قيمة للصحف الورقية؛ وتمنع توزيعها حسب المزاج.. مما أجبر كبار الكُتاب على إعادة نشر مقالاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي.. وقد لا يحالفهم الحظ بسبب تجاهلهم للتطور فيحصدون إعجابات ومتابعة أقل من المدوّنين والهواة الذين واكبوا نشوء هذه الوسائل وترعرعوا عليها.
تنبّه "محمد حسنين هيكل" مبكراً لانتهاء تأثير الصحف الورقية، فأعلن في (2003) انصرافه عن الكتابة فيها..
وفرّغ نفسه للتحدث للفضائيات، وقلّده مئات الكُتاب والصحافيين الذين صاروا نجوماً في مُختلف القنوات التلفزيونية.
في أربعينيات القرن الماضي قال أمير الشعراء أحمد شوقي "لكل زمان آية.. وآية هذا الزمان الصحف"، ومن يومها، وعلى الرُغم من انتشار الإذاعات والتلفزيونات المحلية وأشرطة الكاسيت والفيديو؛ ظلت الصحافة محافظة على مكانتها حتى بداية الألفية، وإعلان المواقع التفاعلية ووسائل التواصل الاجتماعي عن مرحلة جديدة سيُصبِح لها الهيمنة فيما تبقى من القرن الجاري.
وما يُعزي الصحافيون أنّ قدرتهم على البحث والتقصي والكتابة لا تزال مطلوبة في وسائل النشر الالكتروني.. وأنّ أهم فضائيات العالم صارت عالة على منصات التواصل الاجتماعي وتبث من خلالها.. كما تتسابق لنقل الأخبار عنها، لاسيما في المناطق الخطرة، التي يصبح فيها المواطن العادي، أهم من كبار المراسلين.. يوثق الحدث أثناء وقوعه بكاميرا هاتفه.. ولغته البسيطة.. ويبثه للعالم أجمع قبل أنْ يرتّد إليه طرفه.